التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١١١
-البقرة

روح المعاني

{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ } عطف على { وَدَّ } [البقرة: 109] وما بينهما أعني { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ } [البقرة: 109] إما اعتراض بالفاء أو عطف على { وَدَّ } أيضاً، وعطف الإنشاء على الاخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز، والضمير ـ لأهل الكتاب ـ لا ـ لكثير منهم ـ كما يتبادر من العطف، والمراد بهم اليهود والنصارى جميعاً، وكأن أصل الكلام ـ قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ـ فلف بين هذين المقولين، وجعلا مقولاً واحداً اختصاراً وثقة بفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد، وللعلم بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمه (أو) كما في «مغني اللبيب» للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار ـ وهود ـ جمع هائد كعوذ جمع عائذ، وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغيره، وقيل: إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف، وعلى القول بالجمعية يكون اسم (كان) مفرداً عائداً على (مَنْ) باعتبار لفظها، وجمع الخبر باعتبار معناها، وهو كثير في الكلام خلافاً لمن منعه، ومنه قوله:

وأيقظ من كان منكم نياماً

وقرأ أبـيّ (يهودياً أو نصرانياً) فحمل الخبر والاسم معاً على اللفظ.

{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى ـ كالأضحوكة والأعجوبة ـ والجملة معترضة بين قولهم ذلك؛ وطلب الدليل على صحة دعواهم و { تِلْكَ } إشارة إلى { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ } الخ، وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها، وقيل: إشعاراً بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان؛ وقيل: لا حاجة إلى هذا كله بل الجمع لأن (تلك) محتوية على أمان ـ أن لا يدخل الجنة إلا اليهود، وأن لا يدخل الجنة إلا النصارى ـ وحرمان المسلمين منها، وأيضاً فقائله متعدد وهو باعتبار كل قائل أمنية وباعتبار الجميع أمان كثيرة، ومن الناس من جعلها إشارة إلى أن ـ لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفاراً، وأن لا يدخل الجنة غيرهم ـ وعليه يكون أمانيهم تغليباً لأن الأولين من قبيل المتمنيات حقيقة؛ والثالث دعوى باطلة، وجوز أيضاً أن تكون إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب، فإطلاق الأمنية على دعواهم على سبيل الحقيقة، وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى الاستعارة تشبيهاً بالمتمني في الاستحالة، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد لا سيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيها ـ ودّهم ـ لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد جداً أن يشار إليها.

{ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ } أي على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى: { قَالُواْ لَن يَدْخُلَ } الخ على أنه جواب له لا غير، و { هَاتُواْ } بمعنى أحضروا والهاء أصلية لا بدل من همزة ـ آتوا ـ ولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافاً لمن زعم أنها اسم فعل أو صوت بمنزلة ـ ها ـ وفي مجيء الماضي والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف؛ وأثبت أبو حيان ـ هاتي يهاتى مهاتاة ـ والبرهان الدليل على صحة الدعوى، قيل: هو مأخوذ من البره/ وهو القطع فتكون النون زائدة، وقيل: من البرهنة وهو البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبنى على هذا الاشتقاق الخلاف في ـ برهان ـ إذا سمي به هل ينصرف أو لا؟

{ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ومتعلق الصدق دعواهم السابق لا ـ الإيمان ـ ولا ـ الأماني ـ كما قيل، وأفهم التعليق أنه لا بد من البرهان للصادق ليثبت دعواه، وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به، ولذا قيل: من ادعى شيئاً بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه، وليس في الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لا يخفى، وتفسير الصدق هنا بالصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد الذهن.