التفاسير

< >
عرض

رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
-البقرة

روح المعاني

{ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ } أي ارسل في ـ الأمة المسلمة ـ وقيل: في ـ الذرية ـ وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد { رَسُولاً مّنْهُمْ } أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ لا من ذريتهما ـ فهو المجاب به دعوتهما، كما روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني" وأراد صلى الله عليه وسلم إثر دعوته، أو مدعوه، أو عين دعوته ـ على المبالغة ـ ولما كان إسمٰعيل عليه السلام شريكاً في الدعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة إسمٰعيل أيضاً إلا أنه خص إبراهيم لشرافته وكونه أصلاً في الدعاء، ووهم من قال: إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسمٰعيل عليهما الصلاة والسلام. وقرأ أبـيّ { وَٱبْعَثْ فِيهِمْ فِى آخرهم رَسُولاً } وهذا يؤيد أن المراد به نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي الأثر أنه لما دعي إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو يكون في آخر الزمان.

{ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَتُكَ } أي يقرأ عليهم ما توحى إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما،/ وقيل: خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة، والجملة صفة (رسولاً) وقيل: في موضع الحال منه. { وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره. والظاهر: أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون ـ الرسول ـ صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعواً به غير بين ولا مبين.

{ وَٱلْحكْمَةَ } أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة ـ للكتاب ـ أو ـ الكتاب ـ نفسه، وكرر للتأكيد اعتناءً بشأنه، وقد يقال: المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون ـ تعليم الكتاب ـ عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه، وتعليم الحكمة الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام؛ فتشمل الحكمة النظرية والعملية، قالوا: وبينها وبين ما في الكتاب عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس ـ علماً وعملاً ـ غير مذكور في (الكتاب) وأنت تعلم أن هذا القول بعد سماع قوله تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء } [الأنعام: 38] وقوله سبحانه تعالى: { تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } [النحل: 89] مما لا ينبغي الإقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في (الكتاب) الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر.

{ وَيُزَكّيهِمْ } أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي ـ وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية ـ ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته ـ والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهرتهم أو يشهد لهم ـ بالتزكية والعدالة ـ بعيد { إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } أي الغالب المحكم لما يريد، فلك أن تخصص واحداً منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص، وحمل (العزيز) هنا على من لا مثل له ـ كما قاله ابن عباس ـ أو المنتقم ـ كما قاله الكلبـي ـ و (الحكيم) على العالم ـ كما قيل ـ لا يخلو عن بعد.