التفاسير

< >
عرض

وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٩٥
-البقرة

روح المعاني

{ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } عطف على { { قَاتَلُواْ } [البقرة: 190] أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } بترك الغزو والإنفاق فيه، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهياً عن ضدهما تأكيداً لهما، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد ـ عن أبـي عمران ـ قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وأنفقوا الخ، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو. وقال الجبائي: التهلكة الإسراف في الإنفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحرياً للطريق الوسط/ بين الإفراط والتفريط فيه، وروى البيهقي في «الشعب» ـ عن الحسن ـ أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكداً للأمر السابق، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة، وإيقاع النفس الخطر والهلاك، فيكون الكلام متعلقاً بـ { ـقَاتَلُواْ } [البقرة: 190] نهياً عن الإفراط والتفريط في الشجاعة، وأخرج سفيان بن عيينة وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل: له { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } هو الرجل يلقي العدو فيقاتل حتى يقتل، قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول: لا يغفر الله تعالى لي أبداً ـ وروي مثله عن عَبيدة السلماني ـ وعليه يكون متعلقاً بقوله سبحانه: { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة: 192] وهو في غاية البعد، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم ـ وتصحيحه لا يوثق به ـ وظاهر اللفظ العموم ـ والإلقاء ـ تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز، ويقال لكل من أخذ من عمل ألقى يديه إليه وفيه، ومنه قول لبيد في الشمس:

حتى إذا (ألقت) يداً في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها

وعدي ـ بإلى ـ لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء ـ والباء ـ مزيدة في المفعول تأكيد معنى النهي، لأن ـ ألقى ـ يتعدى كما في { فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَـاهُ } [الشعراء: 45] وزيادتها في المفعول لا تنقاس، والمراد ـ بالأيدي ـ الأنفس مجازاً، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها، وقيل: يحتمل أن تكون زائدة ـ والأيدي ـ بمعناها، والمعنى لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم قابضة إياها، وأن تكون غير مزيدة ـ والأيدي ـ أيضاً على حقيقتها ويكون المفعول محذوفاً أي: لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إلى التهلكة وفائدة ذكر ـ الأيدي ـ حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار، والتهلكة مصدر كالهلك والهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة ـ بضم العين ـ إلا هذا في المشهور، وحكى سيبويه عن العرب ـ تضرة وتسرة ـ أيضاً بمعنى الضرر والسرور، وجوز أن يكون أصلها ـ تهلكة بكسر اللام ـ مصدر هلك مشدداً كالتجربة والتبصرة فأبدلت ـ الكسرة ضمة ـ وفيه أن مجيء تفعلة ـ بالكسر ـ من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ، والقياس تفعيل وإبدال ـ الكسرة بالضم من غير علة ـ في غاية الشذوذ، وتمثيله بالجوار ـ مضموم الجيم ـ في جوار مكسورها ـ ليس بشيء ـ إذ ليس ذلك نصاً في الإبدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال ـ مضموم الفاء شذوذاً ـ يؤيده ما في «الصحاح» جاورته مجاورة وجواراً وجواراً ـ والكسر أفصح، وفرق بعضهم بين التهلكة والهلاك بأن الأول: ما يمكن التحرز عنه، والثاني: ما لا يمكن، وقيل: الهلاك مصدر والتهلكة نفس الشيء المهلك، وكلا القولين خلاف المشهور، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين { وَأَحْسِنُواْ } أي بالعود على المحتاج ـ قاله عكرمة ـ وقيل: أحسنوا الظن بالله تعالى وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى. { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } ويثيبهم.