التفاسير

< >
عرض

أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
-البقرة

روح المعاني

{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة { وَمَا لَهُ فِى ٱلأَخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ } [البقرة: 200] والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف هٰهنا لكونه كالنتيجة لما قبله، قيل: وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى: { لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ } على الأول: للتفخيم وعلى الثاني: للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، و ـ من ـ إما للتبعيض أو للابتداء، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من { رَبَّنَا ءاتِنَا } [البقرة: 201] الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسباً لأنه من الأعمال وقرىء (مما اكتسبوا).

{ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }. يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، وروي بمقدار فواق ناقة، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات، والجملة تذييل لقوله تعالى: { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } [البقرة: 200] الخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف، أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كماً وكيفاً، ومجازاتهم عليها.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ } بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ومعلوماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ } شواغل/ الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة { وَأْتُواْ } هاتيك { ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا } التي تلي الروح، ويدخل منها الحق { { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [البقرة: 189] عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به { وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ } من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر { وَلاَ تَعْتَدُواْ } بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة، ووظائف العبودية:

فرب مخمصة شر من التخم

{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190] الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة { وَٱقْتُلُوهُمْ } حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا { وَأَخْرِجُوهُمْ } عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى { وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم { فَٱقْتُلُوهُمْ } بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي { كَذٰلِكَ جَزَاءُ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [البقرة: 191] الساترين للحق { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن نزاعهم { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة: 192] { وَقَـٰتِلُوهُمْ } على دوام الرعاية وصدق العبودية { حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ولا يحصل التفات إلى السوي { وَيَكُونَ الدّينُ } كُلُّهُ { لِلهِ } بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس { فَإِنِ ٱنتَهَواْ فَلاَ عُدْوٰنَ } [البقرة: 193] إلا على المجاوزين للحدود { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ } الذي قامت به النفس لحقوقها { بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم { وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ } [البقرة: 194] فلا تبالوا بهتك حرمتها { وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد ـ { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [البقرة: 195] إلى تهلكة التفريط { وَأَحْسِنُوۤاْ } ـ [البقرة: 195] بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له، ـ وأتموا حج ـ توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال:(ما استيسر) { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ } ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذٍ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } ضعيف الاستعداد { أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ } أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل بر أو رياضة تقمع بعض القوى { فَإِذَا أَمِنتُمْ } من المانع المحصر { فَمَن تَمَتَّعَ } بذوق تجلي الصفات متوسلاً به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } لضعف نفسه وانقهارها { فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجّ } أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء وهي العقل والوهم والمتخيلة { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } إلى مقام التفصيل والكثرة، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء بالله عز وجل { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 196] من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ } وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة [68] { لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } . ومن هنا قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد، نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ } على نفسه بالعزيمة { فَلاَ رَفَثَ } أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها { وَلاَ فُسُوقَ } ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل/ لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت { وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ } أي ولا ينازع أحداً في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63] { وَمَا تَفْعَلُواْ } من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور { يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } ويثيبكم عليه، { وَتَزَوَّدُواْ } من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل { فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } وتمامها بنفي السوي { وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ } [البقرة: 197] فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ } حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقاً لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعراً لأنه محل الشعور بالجمال، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } إلى ذكره في المراتب { وَإِن كُنتُمْ مّن } قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها { لَمِنَ ٱلضَّالّينَ } [البقرة: 198 ] عن هذه الأذكار في طلب الدنيا { ثُمَّ أَفِيضُواْ } إلى ظواهر العبادات { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ } سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } فقد كان الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة، ومن أنت يا مسكين بعده { { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة: 199] { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ } وفرغتم من الحج { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } قبل السلوك { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه { فَمِنَ ٱلنَّاسِ } من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها { وَمَا لَهُ } } [البقرة:200] في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور؛ ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة { أُولَٰـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ } من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [البقرة: 202].