التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ
١٥
-طه

روح المعاني

{ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أي كائنة لا محالة، وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقاً لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أقرب أن أخفي الساعة ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية ولولا أن [ما] في الإخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت، وحاصله أكاد أبالغ في إخفائها فلا أجمل كما لم أفصل، والمقاربة هنا مجاز كما نص عليه أبو حيان أو أريد إخفاء وقتها المعين وعدم إظهاره وإلى ذلك ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم، ومن مجىء كاد بمعنى أراد كما قال ابن جني في «المحتسب» قوله:

كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى

وروي عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أن المعنى أكاد أخفيها من نفسي، ويؤيده أن في مصحف أبـي كذلك، وروى ابن خالويه عنه ذلك بزيادة فكيف أظهركم عليها، وفي بعض القراآت بزيادة فكيف أظهرها لكم، وفي مصحف عبد الله بزيادة فكيف يعلمها مخلوق وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي ومن ذلك قوله:

أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر

ونحو هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم تحت ظله "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" وبجعل ذلك من باب المبالغة يندفع ما قيل إن إخفاء ذلك من نفسه سبحانه محال فلا يناسب دخول كاد عليه، ولا حاجة لما قيل: إن معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي، والقرينة على هذا المحذوف إثباته في المصاحف، وكونه قرينة خارجية لا يضر إذ لا يلزم في القرينة وجودها في الكلام. وقيل: الدليل عليه أنه لا بد لأخفيها من متعلق وهو من يخفى منه. ولا يجوز أن يكون من الخلق لأنه تعالى أخفاها عنهم لقوله سبحانه: { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34] فيتعين ما ذكر. وفيه أن عدم صحة تقدير من الخلق ممنوع لجواز إرادة إخفاء تفصيلها وتعيينها مع أنه يجوز أن لا يقدر له متعلق، والمعنى أوجد إخفاءها ولا أقول: إنها آتية. وقال أبو علي: المعنى أكاد أظهرها بإيقاعها على أن أخفيها من ألفاظ السلب بمعنى أزيل خفاءها أي ساترها وهو في الأصل ما يلف به القربة ونحوها من كساء وما يجري مجراه. ومن ذلك قول امرىء القيس:

فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن توقدوا الحرب لا نقعد

ويؤيده قراءة أبـي الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد ورويت عن ابن كثير وعاصم { أخفيها } بفتح الهمزة فإن خفاه بمعنى أظهره لا غير في المشهور، وقال أبو عبيدة كما حكاه أبو الخطاب أحد رؤساء اللغة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد. ومتعلق الإخفاء على الوجه السابق في تفسير قراءة الجمهور والإظهار ليس شيئاً واحداً حتى تتعارض القراءتان. وقالت فرقة: خبر كاد محذوف أكاد آتي بها كما حذف في قول ضابـىء البرجمي:

/ هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله

أي وكدت أفعل وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه تعالى يخفيها، واختاره النحاس وقالت فرقة أخرى: { أَكَادُ } زائدة لا دخول لها في المعنى بل المراد الإخبار بأن الساعة آتية وإن الله تعالى يخفي وقت إتيانها. وروي هذا المعنى عن ابن جبير. واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى: { { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [النور: 40]. ويقول زيد الخيل:

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس

ولا حجة في ذلك كما لا يخفى.

{ لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } متعلق بآتية كما قال صاحب «اللوامح» وغيره وما بينهما اعتراض لا صفة حتى يلزم إعمال اسم الفاعل الموصوف وهو لا يجوز على رأي البصريين أو بأخفيها على أن المراد أظهرها لا على أن المراد أسترها لأنه لا وجه لقولك: أسترها لأجل الجزاء، وبعضهم جوز ذلك، ووجهه بأن تعمية وقتها لتنتظر ساعة فساعة فيحترز عن المعصية ويجتهد في الطاعة. وتعقب بأنه تكلف ظاهر مع أنه لا صحة له إلا بتقدير لينتظر الجزاء أو لتخاف وتخشى، وما مصدرية أي لتجزى بسعيها وعلمها إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وهذا التعميم هو الظاهر، وقيل: لتجزى بسعيها في تحصيل ما ذكر من الأمور المأمور بها، وتخصيصه في معرض الغاية لإتيانها مع أنه لجزاء كل نفس بما صدر عنها سواء كان سعياً فيما ذكر أو تقاعداً عنه بالمرة أو سعياً في تحصيل ما يضاده للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة، وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة وبأن المأمور به في قوة الوجوب والساعة في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجبان على كل نفس أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجد في تحصيل ما ينجيها من الطاعات و[حينئذ] تحترز عن اقتراف ما يرديها من المعاصي انتهى. ولا يخفى ما فيه، وقيل: ما موصولة أي بالذي تسعى فيه، وفيه حذف العائد المجرور بالحرف مع فقد شرطه. وأجيب بأنه يجوز أن يكون القائل لا يشترط، وقيل: يقدر منصوباً على التوسع.