التفاسير

< >
عرض

ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ
٥
-طه

روح المعاني

{

ٱلرَّحْمَـٰنُ } رفع على المدح أي هو الرحمن. وجوز ابن عطية أن يكون بدلاً من الضمير المستتر في { خَلَقَ } [طه: 4] وتعقبه أبو حيان فقال: أرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ولا يحل هٰهنا لئلا يلزم خلو الصلة من العائد اهـ، ومنع بعضهم لزوم اطراد الحلول ثم قال: على تسليمه يجوز إقامة الظاهر مقام الضمير العائد كما في قوله:

وأنت الذي في رحمة الله أطمع

نعم اعتبار البدلية خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ واللام للعهد والإشارة إلى الموصول وخبره قوله تعالى: { عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } ويقدر هو ويجعل خبراً عنه على احتمال البدلية، وعلى الاحتمال الأول يجعل خبراً بعد خبر لما قدر أولاً على ما في «البحر» وغيره، وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ { ٱلرحمـٰن } بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه صفة لمن. وتعقبه أبو حيان بأن مذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها كمن وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما فعندهم لا يجوز هذا التخريج فالأحسن أن يكون { ٱلرَّحْمَـٰنُ } بدلاً من { مِنْ } وقد جرى في القرآن مجرى العلم في وقوعه بعد العوامل، وقيل: إن { مِنْ } يحتمل أن تكون نكرة موصوفة وجملة { خَلَقَ } [طه: 4] صفتها و { ٱلرَّحْمَـٰنُ } صفة بعد صفة وليس ذاك من وصف الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها غاية ما في الباب أن فيه تقديم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو جائز اهـ وهو كما ترى. وجملة { عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } على هذه القراءة خبر هو مقدراً، والجار والمجرور على كل الاحتمالات متعلق باستوى قدم عليه لمراعاة الفواصل.

و { ٱلْعَرْشِ } في اللغة سرير الملك وفي الشرع سرير ذو قوائم له حملة من الملائكة عليهم السلام فوق السمٰوات مثل القبة، ويدل على أن له قوائم ما أخرجاه في «الصحيحين» عن أبـي سعيد قال: "جاء رجل من اليهود إلى النبـي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي فقال النبـي عليه الصلاة والسلام: ادعوه فقال: لم لطمت وجهه؟ فقال: يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر فقلت: يا خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم فأخذتني غضبة فلطمته فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون وأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" ، وعلى أن له حملة من الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } [غافر: 7]. وما رواه أبو داود عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة" وعلى أنه فوق السمٰوات مثل القبة ما رواه أبو داود أيضاً عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابـي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس ونهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك / في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك أنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سمٰواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب" ومن شعر أمية بن أبـي الصلت:

مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا لا يناله طرف العـ ـين ترى حوله الملائك صورا

وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أنه مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة وهو محدد الجهات وربما سموه الفلك الأطلس والفلك التاسع. وتعقبه بعض شراح «عقيدة الطحاوي» بأنه ليس بصحيح لما ثبت في الشرع من أن له قوائم تحمله الملائكة عليهم السلام، وأيضاً أخرجا في «الصحيحين» عن جابر أنه قال: سمعت النبـي صلى الله عليه وسلم يقول: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" والفلك التاسع عندهم متحرك دائماً بحركة متشابهة، ومن تأول ذلك على أن المراد باهتزازه استبشار حملة العرش وفرحهم فلا بد له من دليل على أن سياق الحديث ولفظه كما نقل عن أبـي الحسن الطبري وغيره بعيد عن ذلك الاحتمال، وأيضاً جاء في «صحيح مسلم» من حديث جويرية بنت الحرث ما يدل على أن له زنة هي أثقل الأوزان والفلك عندهم لا ثقيل ولا خفيف، وأيضاً العرب لا تفهم منه الفلك والقرآن إنما نزل بما يفهمون. وقصارى ما يدل عليه خبر أبـي داود عن جبير بن مطعم التقبيب وهو لا يستلزم الاستدارة من جميع الجوانب كما في الفلك ولا بد لها من دليل منفصل. ثم إن القوم إلى الآن بل إلى أن ينفخ في الصور لا دليل لهم على حصر الأفلاك في تسعة ولا على أن التاسع أطلس لا كوكب فيه وهو غير الكرسي على الصحيح فقد قال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض" . وروى ابن أبـي شيبة في كتاب «صفة العرش» والحاكم في «مستدركه» وقال: إنه على شرط الشيخين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وقد روي مرفوعاً والصواب وقفه على الحبر. وقيل: العرش كناية عن الملك والسلطان. وتعقبه ذلك البعض بأنه تحريف لكلام الله تعالى وكيف يصنع قائل ذلك بقوله تعالى: { { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ } [الحاقة: 17] أيقول ويحمل ملكه تعالى يومئذٍ ثمانية، وقوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" أيقول آخذ بقائمة من قوائم الملك وكلا القولين لا يقولهما من له أدنى ذوق، وكذا يقال: أيقول في "اهتز عرش الرحمن" الحديث اهتز ملك الرحمن وسلطانه، وفيما رواه البخاري وغيره عن أبـي هريرة مرفوعاً "لما قضى الله تعالى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبـي فهو عنده سبحانه وتعالى فوق الملك والسلطان" ؛ وهذا كذينك القولين.

والاستواء على الشيء جاء بمعنى الارتفاع والعلو عليه وبمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى: { { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِىّ } [هود: 44] و { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ } [الزخرف: 13] وحيث كان ظاهر ذلك مستحيلاً عليه / تعالى قيل: الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء كما في قوله:

قد استوى بشر على العراق

وتعقب بأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز، وذلك محال في حقه تعالى، وأيضاً إنما يقال: استولى فلان على كذا إذا كان له منازع ينازعه وهو في حقه تعالى محال أيضاً، وأيضاً إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجوداً قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه سبحانه، وأيضاً الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة. وأجاب الإمام الرازي بأنه إذا فسر الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، ولا يخفى حال هذا الجواب على المنصف.

وقال الزمخشري: ((لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على العرش البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل ولا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: جواد ومنه قوله تعالى: { { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ } [المائدة: 64] الآية عنوا الوصف بالبخل ورد عليهم بأنه جل جلاله جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط)) انتهى.

وتعقبه الإمام قائلاً: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم يقولون أيضاً: المراد من قوله تعالى: { { ٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه: 12] الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل، وقوله تعالى: { { يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } [الأنبياء: 69] المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام عن يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة. وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه انتهى، ولا يخفى عليك أنه لا يلزم من فتح الباب في هذه الآية انفتاح تأويلات الباطنية فيما ذكر من الآيات إذ لا داعي لها هناك والداعي للتأويل بما ذكره الزمخشري قوي عنده، ولعله الفرار من لزوم المحال مع رعاية جزالة المعنى فإن ما اختاره أجزل من معنى الاستيلاء سواء كان معنى حقيقياً للاستواء كما هو ظاهر كلام «الصحاح» و«القاموس» وغيرهما أو مجازياً كما هو ظاهر جعلهم الحمل عليه تأويلاً.

واستدل الإمام على بطلان إرادة المعنى الظاهر بوجوه. ((الأول: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولما خلق الخلق لم يحتج إلى ما كان غنياً عنه. الثاني: أن المستقر على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في يساره فيكون سبحانه وتعالى في نفسه مؤلفاً وهو محال في حقه تعالى للزوم الحدوث. الثالث: أن المستقر على العرش أما أن يكون متمكناً من الانتقال والحركة ويلزم حينئذٍ أن يكون سبحانه وتعالى محل الحركة والسكون وهو قول بالحدوث أو لا يكون متمكناً من ذلك فيكون جل وعلا كالزمن بل أسوأ حالاً منه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. الرابع: أنه إن قيل بتخصيصه سبحانه وتعالى بهذا المكان وهو العرش احتيج إلى مخصص وهو افتقار ينزه الله تعالى عنه، وإن قيل بأنه عز وجل يحصل بكل مكان لزم ما لا يقوله عاقل. الخامس: أن قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [الشورى: 11] عام في نفي المماثلة فلو كان جالساً لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذٍ تبطل الآية. السادس: أنه تعالى لو كان مستقراً على العرش لكان محمولاً / للملائكة لقوله تعالى: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ } [الحاقة: 17] وحامل حامل الشيء حامل لذلك الشيء وكيف يحمل المخلوق خالقه. السابع: أنه لو كان المستقر في المكان إلٰهاً ينسد باب القدح في إلٰهية الشمس والقمر. الثامن: أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى قوم هي تحت بالنسبة إلى آخرين وبالعكس فيلزم من إثبات جهة الفوق للمعبود سبحانه إثبات الجهة المقابلة لها أيضاً بالنسبة إلى بعض، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال: المعبود تحت. التاسع: أن الأمة أجمعت على أن قوله تعالى: { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الصمد: 1] من المحكمات وعلى فرض الاستقرار على العرش يلزم التركيب والانقسام فلا يكون سبحانه وتعالى أحداً في الحقيقة فيبطل ذلك المحكم. العاشر: أن الخليل عليه السلام قال: { لا أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام: 76] فلو كان تعالى مستقراً على العرش لكان جسماً آفلاً أبداً فيندرج تحت عموم هذا القول)) انتهى.

ثم إنه عفا الله تعالى عنه ضعف القول بأنا نقطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به الظاهر بل مراده سبحانه شيء آخر ولكن لا نعين ذلك المراد خوفاً من الخطأ بأنه عز وجل لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا نريد باللفظ إلا موضوعه في لسانهم وإذا كان لا معنى للاستواء في لسانهم إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله على الاستقرار فوجب حمله على الاستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وأنه غير جائز. وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض «فتاويه»: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 19] و { لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه الله تعالى مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وفيه توسط في المسألة.

وقد توسط ابن الهمام في «المسايرة» وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصرينا ابن عابدين الشامي في «رد المحتار حاشية الدر المختار» توسطاً أخص من هذا التوسط فذكر ما حاصله وجوب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفي التشبيه وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله:

فلما علونا واستوينا عليهم جعلناهم مرعى لنسر وطائر

وقوله قد استوى بشر البيت المشهور. وعلى نحو ما ذكر كل ما ورد مما ظاهره الجسمية في الشاهد كالاصبع والقدم واليد. ومخلص ذلك التوسط في القريب بين أن تدعو الحاجة إليه لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو لذلك. ونقل أحمد زروق عن أبـي حامد أنه قال: لا خلاف في وجوب التأويل عند تعين شبهة لا ترتفع إلا به. وأنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقاً مع نفي التشبيه والتجسيم منهم الإمام أبو حنيفة والإمام مالك والإمام أحمد والإمام الشافعي ومحمد بن الحسن وسعد بن معاذ المروزي وعبد الله بن المبارك وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري والترمذي وأبو داود السجستاني. ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب «الاعتقاد» عن أبـي يوسف عن الإمام أبـي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشيء من ذاته ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه ولا يقول فيه / برأيه شيئاً تبارك الله تعالى رب العالمين. وأخرج ابن أبـي حاتم في «مناقب الشافعي» عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر فنثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه كما نفى سبحانه عن نفسه فقال: { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [الشورى: 11]، وذكر الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وكلام إمام الحرمين في «الإرشاد» يميل إلى طريقة التأويل وكلامه في «الرسالة النظامية» مصرح باختياره طريقة التفويض حيث قال فيها: والذي نرتضيه رأياً وندين به عقداً اتباع سلف الأمة فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات مع أنهم كانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنوناً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق الاهتمام بفروع الشريعة وقد اختاره أيضاً الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في «اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين»، وفي كتابه «الإبانة في أصول الديانة» وهو آخر مصنفاته فيما قيل، وقال البيضاوي في «الطوالع»: والأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء ـ يعني المتشابهات ـ ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفي ما يقتضي التشبيه والتجسيم عنه تعالى انتهى.

وعلى ذلك جرى محققو الصوفية فقد نقل عن جمع منهم أنهم قالوا: إن الناس ما احتاجوا إلى تأويل الصفات إلا من ذهولهم عن اعتقاد أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق وإذا كانت مخالفة فلا يصح في آيات الصفات قط تشبيه إذ التشبيه لا يكون إلا مع موافقة حقيقته تعالى لحقائق خلقه وذلك محال. وعن الشعراني أن من احتاج إلى التأويل فقد جهل أولاً وآخراً أما أولاً فبتعقله صفة التشبيه في جانب الحق وذلك محال، وأما آخراً فلتأويله ما أنزل الله تعالى على وجه لعله لا يكون مراد الحق سبحانه وتعالى. وفي «الدرر المنثورة» له أن المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجثماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالأمر السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [الشورى: 11] ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول الشاعر: قد استوى البيت، وأين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه وتعالى على العرش فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه ويكل معنى كلامه إليه عز وجل.

ونقل الشيخ إبراهيم الكوراني في «تنبيه العقول» عن الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال في «الفتوحات» أثناء كلام طويل عجب فيه من الأشاعرة والمجسمة: الاستواء حقيقة معقولة معنوية تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات ولا حاجة لنا إلى التكلف في صرف الاستواء عن ظاهره، والفقير قد رأى في «الفتوحات» ضمن كلام طويل أيضاً في الباب الثالث منها ما نصه: ما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الفهم من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء البتة ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ويقولون: / لا ندري كان يكفيهم قول الله سبحانه وتعالى: { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [الشورى: 11] ثم ذكر بعد في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: الذي رواه مسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف شاء" التخيير بين التفويض لكن بشرط نفي الجارحة ولا بد وتبيين ما في ذلك اللفظ من وجوه التنزيه، وذكر أن هذا واجب على العالم عند تعينه في الرد على بدعي مجسم مشبه.

وقال أيضاً فيما رواه عنه تلميذه المحقق إسماعيل بن سودكين في «شرح التجليات»: ولا يجوز للعبد أن يتأول ما جاء من أخبار السمع لكونها لا تطابق دليله العقلي كأخبار النزول وغيره لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان به فائدة وقد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام أرسل ليبين للناس ما أنزل إليهم ثم رأيناه صلى الله عليه وسلم مع فصاحته وسعة علمه وكشفه لم يقل لنا أنه تنزل رحمته تعالى ومن قال تنزل رحمته فقد حمل الخطاب على الأدلة العقلية والحق ذاته مجهولة فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معين، والعرب تفهم نسبة النزول مطلقاً فلا تقيده بحكم دون حكم، وحيث تقرر عندها أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء يحصل لها المعنى مطلقاً منزهاً وربما يقال لك هذا يحيله العقل فقل الشأن هذا إذا صح أن يكون الحق من مدركات العقول فإنه حينئذٍ تمضي عليه سبحانه وتعالى أحكامها انتهى، وقال تلميذه الشيخ صدر الدين القونوي في «مفتاح الغيب» بعد بسط كلام في قاعدة جليلة الشأن حاصلها أن التغاير بين الذوات يستدعي التغاير في نسبة الأوصاف إليها ما نصه: وهذه قاعدة من عرفها أو كشف له عن سرها عرف سر الآيات والأخبار التي توهم التشبيه عند أهل العقول الضعيفة واطلع على المراد منها فيسلم من ورطتي التأويل والتشبيه وعاين الأمر كما ذكر مع كمال التنزيه انتهى.

وخلاصة الكلام في هذا المقام أنه قد ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة ألفاظ توهم التشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى الجليل العظيم فتشبث المجسمة والمشبهة بما توهمه فضلوا وأضلوا ونكبوا عن سواء السبيل وعدلوا وذهب جمع إلى أنهم هالكون وبربهم كافرون، وذهب آخرون إلى أنهم مبتدعون وفصل بعض فقال: هم كفرة إن قالوا: هو سبحانه وتعالى جسم كسائر الأجسام ومبتدعة إن قالوا: جسم لا كالأجسام وعصم الله تعالى أهل الحق مما ذهبوا إليه وعولوا في عقائدهم عليه فأثبتت طائفة منهم ما ورد كما ورد مع كمال التنزيه المبرأ عن التجسيم والتشبيه فحقيقة الاستواء مثلاً المنسوب إليه تعالى شأنه لا يلزمها ما يلزم في الشاهد فهو جل وعلا مستو على العرش مع غناه سبحانه وتعالى عنه وحمله بقدرته للعرش وحملته وعدم مماسة له أو انفصال مسافى بينه تعالى وبينه ومتى صح للمتكلمين أن يقولوا: إنه تعالى ليس عين العالم ولا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه مع أن البداهة تكاد تقضي ببطلان ذلك بين شيء وشيء صح لهؤلاء الطائفة أن يقولوا ذلك في استوائه تعالى الثابت بالكتاب والسنة. فالله سبحانه وصفاته وراء طور العقل فلا يقبل حكمه إلا فيما كان في طور الفكر فإن القوة المفكرة شأنها التصرف فيما في الخيال والحافظة من صور المحسوسات والمعاني الجزئية ومن ترتيبها على القانون يحصل للعقل علم آخر بينه وبين هذه الأشياء مناسبة وحيث لا مناسبة بين ذات الحق جل وعلا وبين شيء لا يستنتج من المقدمات التي يرتبها العقل معرفة الحقيقة فأكف الكيف مشلولة وأعناق التطاول إلى معرفة الحقيقة مغلولة وأقدام السعي إلى التشبيه مكبلة وأعين الأبصار والبصائر عن الإدراك والإحاطة مسملة:

مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد

وقد أخرج اللالكائي في كتاب «السنة» من طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير / مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر، ومن طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول وعلى الله تعالى إرساله وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم، ومتى قالوا بنفي اللوازم بالكلية اندفع عنهم ما تقدم من الاعتراضات وحفظوا عن سائر الآفات وهذه الطائفة قيل هم السلف الصالح، وقيل: إن السلف بعد نفي ما يتوهم من التشبيه يقولون: لا ندري ما معنى ذلك والله تعالى أعلم بمراده.

واعترض بأن الآيات والأخبار المشتملة على نحو ذلك كثيرة جداً ويبعد غاية البعد أن يخاطب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم العباد فيما يرجع إلى الاعتقاد بما لا يدري معناه، وأيضاً قد ورد في الأخبار ما يدل على فهم المخاطب المعنى من مثل ذلك، فقد أخرج أبو نعيم عن الطبراني قال: حدثنا عياش بن تميم حدثنا يحيـى بن أيوب المقابري حدثنا سلم بن سالم حدثنا خارجة بن مصعب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى يضحك من يأس عباده وقنوطهم وقرب الرحمة منهم فقلت: بأبـي أنت وأمي يا رسول الله أو يضحك ربنا؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه ليضحك" قلت: فلا يعد منا خيراً إذا ضحك فإنها رضي الله تعالى عنها لو لم تفهم من ضحكه تعالى معنى لم تقل ما قالت.

وقد صح عن بعض السلف أنهم فسروا، ففي «صحيح البخاري» قال مجاهد: استوى على العرش علا على العرش وقال أبو العالية: استوى على العرش ارتفع، وقيل: إن السلف قسمان قسم منهم بعد أن نفوا التشبيه عينوا المعنى الظاهر المعرى عن اللوازم وقسم رأوا صحة تعيين ذلك وصحة تعيين معنى آخر لا يستحيل عليه تعالى كما فعل بعض الخلف فراعوا الأدب واحتاطوا في صفات الرب فقالوا: لا ندري ما معنى ذلك أي المعنى المراد له عز وجل والله تعالى أعلم بمراده. وذهبت طائفة من المنزهين عن التشبيه والتجسيم إلى أنه ليس المراد الظواهر مع نفي اللوازم بل المراد معنى معين هو كذا وكثيراً ما يكون ذلك معنى مجازياً وقد يكون معنى حقيقياً للفظ وهؤلاء جماعة من الخلف وقد يتفق لهم تفويض المراد إليه جل وعلا أيضاً وذلك إذا تعددت المعاني المجازية أو الحقيقة التي لا يتوهم منها محذور ولم يقم عندهم قرينة ترجح واحداً منها فيقولون: يحتمل اللفظ كذا وكذا والله تعالى أعلم بمراده من ذلك.

ومذهب الصوفية على ما ذكره الشيخ إبراهيم الكوراني وغيره إجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم والتنزيه بليس كمثله شيء كمذهب السلف الأول وقولهم بالتجلي في المظاهر على هذا النحو، وكلام الشيخ الأكبر قدس سره في هذا المقام مضطرب كما يشهد بذلك ما سمعت نقله عنه أولاً مع ما ذكره في الفصل الثاني من الباب الثاني من «الفتوحات» فإنه قال في عد الطوائف المنزهة: ((وطائفة من المنزهة أيضاً وهي العالية وهم [من] أصحابنا فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها... وقالوا: حصل في نفوسنا من تعظيم الله تعالى الحق جل جلاله بحيث لا نقدر أن نصل إلى معرفة ما جاءنا من عنده بدقيق فكر ونظر فأشبهوا في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم حيث لم ينظروا ولم يؤولوا [ولا صرفوا] بل قالوا: ما فهمنا فقال أصحابنا بقولهم ثم انتقلوا عن مرتبة هؤلاء بأن قالوا: لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه الكلمات وذلك بأن نفرغ قلوبنا من النظر الفكري ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهيىء لقبول ما يرد [علينا] منه تعالى حتى يكون الحق سبحانه وتعالى متولي تعليمنا بالكشف والتحقق / لما سمعوه تعالى يقول: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 282] و { إِنْ * تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال: 29]. { { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْماً } [طه: 114]. { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } [الكهف: 65] فعندما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله عز وجل ولجأت إليه سبحانه وتعالى وألقت عنها ما استمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة فعند ما كان منهم هذا الاستعداد تجلى لهم الحق (عياناً) معلماً فأطلعتهم تلك المشاهدة على معاني تلك الكلمات دفعة واحدة... فعرفوا المعنى التنزيهي الذي سيقت له. ويختلف ذلك بحسب اختلاف مقامات إيرادها وهذا حال طائفة منا وحال طائفة أخرى منا أيضاً ليس لهم هذا التجلي لكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتاب وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامات عندهم لا يعرفها سواهم فيخبرون بما خوطبوا به وبما ألهموا وما ألقى إليهم أو كتب)) اهـ المراد منه. ولعل من يقول بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم كمذهب السلف الأول من الصوفية طائفة لم يحصل لهم ما حصل لهاتين الطائفتين والفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء.

هذا بقي هل يسمى ما عليه السلف تأويلاً أم لا؟ المشهور عدم تسمية ما عليه المفوضة منهم تأويلاً وسماه بعضهم تأويلاً كالذي عليه الخلف، قال اللقاني: أجمع الخلف ويعبر عنهم بالمؤولة والسلف ويعبر عنهم بالمفوضة على تنزيهه تعالى عن المعنى المحال الذي دل عليه الظاهر وعلى تأويله وإخراجه عن ظاهره المحال وعلى الإيمان به بأنه من عند الله تعالى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما اختلفوا في تعيين محمل له معنى صحيح وعدم تعيينه بنا. على أن الوقف على قوله تعالى: { { وَٱلرّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [آل عمران: 7] أو على قوله سبحانه: { إِلاَّ ٱللَّهُ } ويقال لتأويل السلف إجمالي ولتأويل الخلف تفصيلي انتهى ملخصاً.

وكان شيخنا العلامة علاء الدين يقول: ما عليه المفوضة تأويل واحد وما عليه المؤولة تأويلان، ولعله راجع إلى ما سمعت، وأما ما عليه القائلون بالظواهر مع نفي اللوازم فقد قيل: إن فيه تأويلاً أيضاً لما فيه من نفي اللوازم وظاهر الألفاظ أنفسها تقتضيها ففيه إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، وإخراج اللفظ عن ذلك لدليل ولو مرجوحاً تأويل. ومعنى كونهم قائلين بالظواهر أنهم قائلون بها في الجملة، وقيل: لا تأويل فيه لأنهم يعتبرون اللفظ من حيث نسبته إليه عز شأنه وهو من هذه الحيثية لا يقتضي اللوازم فليس هناك إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، ألا ترى أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على رؤية الله تعالى في الآخرة مع نفي لوازم الرؤية في الشاهد من المقابلة والمسافة المخصوصة وغيرهما مع أنه لم يقل أحد منهم: إن ذلك من التأويل في شيء، وقال بعض الفضلاء: كل من فسر فقد أول وكل من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير فمن عدا المفوضة مؤولة وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى: { { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } [آل عمران: 7] بناءً على أن الوقف على { إِلاَّ ٱللَّهُ } ولا يخفى أن القول بأن القائلين بالظواهر مع نفي اللوازم من المؤولة الغير الداخلين في الراسخين في العلم بناءً على الوقف المذكور لا يتسنى مع القول بأنهم من السلف الذين هم هم وقد يقال: إنهم داخلون في الراسخين والتأويل بمعنى آخر يظهر بالتتبع والتأمل، وقد تقدم الكلام في المراد بالمتشابهات وذكرنا ما يفهم منه الاختلاف في معنى التأويل وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم في بعض ما ينسب إلى الله تعالى مثل قوله سبحانه: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } [الرحمٰن: 31] وقوله عز وجل: { { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } [يس: 30] كما في بعض القراآت وكذا قوله صلى الله عليه وسلم إن صح: "الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن قبله أو صافحه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه" فاجعل الكلام فيه خارجاً مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته تعالى كما قال السلف / في اليمين وأرى من يقول بالظواهر ونفي اللوازم في الجميع بينه وبين القول بوحدة الوجود على الوجه الذي قاله محققو الصوفية مثل ما بين سواد العين وبياضها، وأميل أيضاً إلى القول بتقبيب العرش لصحة الحديث في ذلك، والأقرب إلى الدليل العقلي القول بكريته ومن قال بذلك أجاب عن الأخبار السابقة بما لا يخفى على الفطن.

وقال الشيخ الأكبر محي الدين قدس سره في الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من «الفتوحات»: إنه ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وبين كل قائمتين قوائم وعددها معلوم عندنا ولا أبينها إلى آخر ما قال، ويفهم كلامه أن قوائمه ليست بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن، وصرح بأنه أحد حملته وأنه أنزل عند أفضل القوائم وهي خزانة الرحمة، وذكر أن العمى محيط به وأن صورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية، وأطال الكلام في هذا الباب وأتى فيه بالعجب العجاب، وليس له في أكثر ما ذكره فيه مستند نعلمه من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه ما لا يجوز لنا أن نقول بظاهره، والظاهر أن العرش واحد، وقال من قال من الصوفية بتعدده، ولا يخفى ما في نسبة الاستواء إليه تعالى بعنوان الرحمانية مما يزيد قوة الرجاء به جل وعلا وسبحان من وسعت رحمته كل شيء.