التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٠٢
-آل عمران

روح المعاني

{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } كرر الخطاب بهذا العنوان تشريفاً لهم ولا يخفى ما في تكراره من اللطف بعد تكرار خطاب الذين أوتوا الكتاب { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي حق تقواه، روى غير واحد عن ابن مسعود موقوفاً ومرفوعاً هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويُشكر فلا يكفر، وادعى كثير نسخ هذه الآية وروي ذلك عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبـي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً على المسلمين { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] فنسخت الآية الأولى، ومثله عن أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس، روى ابن جرير من بعض الطرق عنه أنه قال: لم تنسخ ولكن { حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم، ومن قال بالنسخ جنح إلى أن المراد من { حَقَّ تُقَاتِهِ } ما يحق له ويليق بجلاله وعظمته وذلك غير ممكن وما قدروا الله حق قدره، ومن قال بعدم النسخ جنح إلى أن { حَقّ } من حق الشيء بمعنى وجب وثبت، والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها وأن الأصل اتقوا الله اتقاءاً حقاً أي / ثابتاً وواجباً على حد ضربت زيد شديد الضرب تريد الضرب الشديد فيكون قوله تعالى: { { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] بياناً لقوله تعالى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }.

وادعى أبو علي الجبائي أن القول بالنسخ باطل لما يلزم عليه من إباحة بعض المعاصي، وتعقبه الرماني بأنه إذا وجه قوله تعالى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } على أن يقوموا بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه ما ذكره لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى على كل حال، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال سبحانه: { { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ } [النحل: 106] وأنت تعلم أن ما ذكره الجبائي إنما يخطر بالبال حتى يجاب عنه إذا فسر { حَقَّ تُقَاتِهِ } على تقدير النسخ بما فسره هو به من ترك جميع المعاصي ونحوه وإن لم يفسر بذلك بل فسر بما جنح إليه القائل بالنسخ فلا يكاد يخطر ما ذكره ببال ليحتاج إلى الجواب، نعم يكون القول بإنكار النسخ حينئذ مبنياً على ما ذهب إليه المعتزلة من امتناع التكليف بما لا يطاق ابتداءاً كما لا يخفى، وأصل تقاة وقية قلبت واوها المضمومة تاءاً كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفاً، وأجاز فيها الزجاج ثلاثة أوجه: تقاة، ووقاة، وإقاة.

{ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي مخلصون نفوسكم لله عز وجل لا تجعلون فيها شركة لسواه أصلاً، وذكر بعض المحققين أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبـي لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان فأخذ الإسلام أولاً والإيمان ثانياً لما أن لكل مقام مقالاً، والاستثناء [مفرغ] من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الاسمية، ولو قيل: إلا مسلمين لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل { إِلا } بعد النقض والمقصود النهي عن الكون على حال غير حال الإسلام عند الموت، ويؤل إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي عنه أصلاً لأنه ليس بمقدور لهم حتى ينهوا عنه، وفي "التحبير" للإمام السيوطي: ومن عجيب ما اشتهر في تفسير { مُّسْلِمُونَ } قول العوام: أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه انتهى، وقرأ أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه { مُّسْلِمُونَ } بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبـي صلى الله عليه وسلم منقادون له؛ وفي هذه الآية تأكيد للنهي عن إطاعة أهل الكتاب.