التفاسير

< >
عرض

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
-آل عمران

روح المعاني

{ فَتَقَبَّلَهَا } أي رضي بمريم في النذر مكان الذكر ففيه تشبيه النذر بالهدية ورضوان الله تعالى بالقبول { رَبُّهَا } أي رب مريم المبلغ لها إلى كمالها اللائق بها، وقيل: الضمير لامرأة عمران بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها: { رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا } [آل عمران: 36] الخ، والأول أولى { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } الباء مثلها في ـ كتبت بالقلم ـ و ـ القبول ـ ما يقبل به الشيء ـ كالسعوط واللدود ـ ما يسعط به ويلد أي تقبلها بوجه حسن تقبل به النذائر وهو اختصاصه سبحانه إياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى، أو تسلمها من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة والخدمة. فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما وضعتها خشيت حنة أن لا تقبل الأنثى محررة فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء فتساهم القراء عليها ـ لأنها كانت بنت إمامهم ـ أيهم يأخذها فقال زكريا وهو رأس الأحبار: أنا آخذها وأنا أحقهم بها لأن خالتها عندي، فقالت القراء: ولكنا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي وجمعوها في موضع ثم غطوها، وقال زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس: أدخل يدك فأخرج فأدخل يده فأخرج قلم زكريا فقالوا: لا نرضى ولكن نلقي الأقلام في الماء فمن خرج قلمه في جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جري الماء فقالوا: نقترع الثالثة فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء وارتفعت أقلامهم في جرية الماء وقبضها عند ذلك زكريا، ويجوز أن تكون الباء للملابسة.

و ـ القبول ـ مصدر وهو من المصادر الشاذة وهناك مضاف محذوف، والمعنى رضي بها متلبسة بأمر ذي قبول، ووجه ذي رضا وهو ما يقيمها مقام الذكور لما اختصت به من الإكرام، ويجوز أن يكون تفعل بمعنى استفعل ـ كتعجل بمعنى استعجل ـ والمعنى فاستقبلها ربها وتلقاها من أول وهلة من ولادتها بقبول/ حسن وأظهر الكرامة فيها حينئذٍ ـ وفي المثل خذ الأمر بقوابله ـ وجوز أن تكون الباء زائدة، و ـ القبول ـ مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أي قبلها قبولاً حسناً، وعدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته، ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة بمعنى مع ـ أي تقبل نذرها ـ مع قبول حسن لدعاء أمها في حقها وحق ذريتها حيث أعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى خاتمة الحياة.

{ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عنه أنه سوى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام، وقيل: تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات. و { نَبَاتاً } هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن إنبات، وقيل: التقدير فنبتت نباتاً، والنبات والنبت بمعنى. وقد يعبر بهما عن النابت.

{ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } وهو من ولد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ـ أي ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها ـ على ما ذكر في حديث ابن عباس، وكل ذلك من آثار قدرته تعالى، ولم يكن هناك وحي إليه بذلك، وقرأ بتشديد الفاء حمزة والكسائي وعاصم، وقصروا { زَكَرِيَّا } غير عاصم في رواية ابن عياش ـ وهو مفعول به لكفلها ـ وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدوا { زَكَرِيَّا } ورفعوه على الفاعلية ـ وفيه لغتان أخريان ـ إحداهما: ـ زكرى ـ بياء مشددة من غير ألف، وثانيتهما: ـ زكر ـ بغير ياء ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لألف التأنيث، وقرأ أبـي (وأكفلها)، وقرأ مجاهد ـ فتقبلها ربها وأنبتها وكفلها ـ على صيغة الدعاء في الأفعال الثلاثة ونصب ـ ربها ـ على النداء أي فاقبلها يا ربها وربِها، واجعل زكريا كافلاً لها، وقد استجاب الله تعالى دعاءها في جميع ذلك، والذي عليه الأكثرون وشهدت له الأخبار أن كفالة زكريا كانت من أول أمرها، وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن وليس بالقوي.

{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ } بيان لقبولها ولهذا لم يعطف، والمحراب على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غرفة بنيت لها في بيت المقدس وجعلت بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا بسلم مثل باب الكعبة، وقيل: المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب؛ وقيل: أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد في رأي، وأصله مفعال صيغة مبالغة ـ كمطعان ـ فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه، وقيل: إنه يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس الناس عليه ولبعض المغاربة في المدح:

جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب

وتقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها، ونصب { ٱلْمِحْرَابَ } على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى بفي؛ أو بإلى وإظهار الفاعل قيل: لفصل الجملة، و { كُلَّمَا } ظرف على أن (ما) مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لأن ما في حيز المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء الشرط، ومن الناس من وهم فقال: إن ناصبه فعل/ الشرط، وادعى أنه الأنسب معنى فزاد في الشطرنج جملاً والمعنى كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه.

{ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } أي أصاب ولقي بحضرتها ذلك أو ذلك كائناً بحضرتها، أخرج ابن جرير عن الربيع قال: إنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، والتنوين للتعظيم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من ثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة، فقد روي أنها لم ترضع ثدياً قط، وقيل: إن هذا كان بعد أن ترعرعت، ففي رواية ابن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن زكريا عليه الصلاة والسلام استأجر لها ظئراً فلما تم لها حولان فطمت وتركت في المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم يتعهد أمرها سواه».

{ قَالَ يَـا مَرْيَمُ } استئناف بياني { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } أي من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك، ومجىء { أَنَّى } بمعنى من أين، أو كيف تقدم الكلام عليه، واستشهد للأول بقوله:

تمنى بوادي الرمث زينب ضلة فكيف ومن (أنّى) بذي الرمث تطرق

وللثاني بقوله:

ـ أنى ومن أين ـ أبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب

وحذف حرف الجر من { أَنّى } نحو حذف ـ في ـ من الظروف اللازمة للظرفية من نحو ـ مع، وسحر ـ لأن الشيء إذا علم في موضع جاز حذفه، والتحقيق أن الظروف محل التوسع لكثرة استعمالهم إياها وكل ظرف يستعمل مع حرف صلته التي يكثر معها استعمالها ـ لأن اتصالها بمظروفها بتلك الحروف ـ فجاز حذفها كما جاز حذف ـ في ـ إلا أنها لما كانت الأصل لوضعها للظرفية اطرد حذفها من المتصرفة وغير المتصرفة، وغيرها من صلات الظروف لا يحذف إلا مع ما يكثر من غير المتصرفة حطاً لرتبتها عن رتبة ـ في ـ كما في «الكشف».

واستدل بالآية على جواز الكرامة للأولياء لأن مريم لا نبوة لها على المشهور، وهذا هو الذي ذهب إليه أهل السنة والشيعة وخالف في ذلك المعتزلة، وأجاب البلخي منهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصاً وتأسيساً لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأجاب الجبائي بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام، ورد الأخير بأن اشتباه الأمر عليه يأبـى ذلك، ولعله مبني على الظاهر، وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الأمر الاشتباه نظر لأنه يجوز أن يكون لإظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه، والقول ـ بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشيء كما لا يخفى.

{ قَالَتْ } استئناف كالذي قبله { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } قيل: أرادت من الجنة، وقيل: مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب ولا تستبعد، وقيل: تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد جمع من تكلم كذلك فبلغوا أحد عشر نفساً، وقد نظمهم الجلال السيوطي فقال:

تكلم في المهد النبـي (محمد) (ويحيـى وعيسى والخليل ومريم)
ومبرى (جريج) ثم (شاهد يوسف) (وطفل لذي الأخدود) يرويه مسلم
(وطفل) عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون (طفلها) وفي زمن الهادي (المبارك) يختم

/{ إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء } من عباده أن يرزقه { بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقدم معناه، والجملة تعليل لكونه من عند الله، والظاهر أنها من كلام مريم فحينئذٍ تكون في محل النصب داخلة تحت القول، وقال الطبري: إنها ليست من كلامها بل هي مستأنفة من كلامه تعالى إخباراً لنبيه صلى الله عليه وسلم، والأول أولى، وقد أخرج أبو يعلى عن جابر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ فقالت: لا والله فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت: لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها فقالت له: بـي أنت وأمي قد أتى الله تعالى بشيء قد خبأته لك قال: هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله تعالى، وقال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: يا أبتي هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فحمد الله سبحانه ثم قال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقاً فسئلت عنه قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم جمع علياً والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة رضي الله تعالى عنها على جيرانها.

" هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } نهى عن موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة بينهم في الحقيقة ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور، والولاية تقتضي المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله تعالى لا يحب المرائين ولا المنافقين، ومن هنا نهى أهل الله تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الإنكار ـ والعياذ بالله تعالى ـ تحاكي ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق الإيمان، { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ } ولاية { ٱللَّهِ } تعالى { فِي شَيْءٍ } معتد به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب بها الحضرة الإلۤهية { إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } فحينئذٍ تجوز الموالاة ظاهراً، وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوي يقينه فلا يخشى إلا الله تعالى { وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } أي يدعوكم إلى التوحيد العياني لئلا يكون خوفكم من غيره { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [آل عمران: 28] فلا تحذروا إلا إياه، والأكثرون على أن هذا خطاب للخواص العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه وقد حذر من دونهم بقوله سبحانه: { { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [البقرة: 281] قال إبراهيم الخواص: وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ } من الموالاة { أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } لأنه مع كل نفس وخطرة { وَيَعْلَمُ مَا فِى } سماوات الأرواح وأرض الأجسام { { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } [آل عمران: 29] فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء } لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النقوش ولا يبصر هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى فإذا وجد سوءاً { تَوَدُّ } نفسه وتتمنى { لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا } لتعذبها به { وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } كرره تأكيداً لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه { وَٱللَّهُ رَءوفٌ بِٱلْعِبَادِ } [آل عمران: 30] أي بسائرهم فلهذا حذرهم،/ أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى } لأني سيد المحبين { يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر الأنس، وطهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل، وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق المحب بخلق المحبوب ـ وهذا أصل المحبة ـ وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات، والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات، والتواضع والذل في الحركات والسكنات:

مساكين أهل العشق حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر

وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه:

خليلي لو أحببتما لعلمتما محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه وشوق على بعد المراد وقربه

وقد يقال: المحبة ثلاثة أقسام، القسم الأول: محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجراً على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب:

وما أنا بالباغي على الحب رشوة ضعيف هوى يرجى عليه ثواب

القسم الثاني: محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالاً وإعظاماً ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا القسم أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" ، وقالت رابعة رحمها الله تعالى:

أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا

وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد القسم الثالث: محبة خواص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلۤهية في مكامن «كنت كنزاً مخفياً» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل:

يقولون إن الحب كالنار في الحشا ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد

ويكفي في شرح الحب لفظه فإنه ـ حاء وباء ـ والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له: حب، وشرح ذاك يطول، وهذه محبة العبد لربه، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضاً، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث/ الرحمة فكأنه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم: اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه، وهناك يرتفع البون من البين، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير:

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبداً طائعاً وله الحكم

{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجوداً لا يفنى كما قال: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" الحديث { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم { { رَّحِيمٌ } [آل عمران: 31] يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجوداً حقانية خيراً من ذلك { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } فإن المريد يلزمه متابعة المراد { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون { { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [آل عمران: 32] لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْرٰهِيمَ وَءالَ عِمْرٰنَ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } [آل عمران: 33] الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى: { { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [البقرة: 253] فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } [البقرة: 253] ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء، فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له، ونوحاً الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبـي تبع نبياً في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى الروحانية، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب { { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرٰنَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } [آل عمران: 35] عن رق النفس مخلصاً في عبادتك عن الميل إلى السوي { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } لطهارة سره، وشبيه الشيء منجذب إليه { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.

وأخرج ابن أبـي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال: رزقاً أي علماً، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرٰنَ } وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } وهو غلام القلب { مُحَرَّرًا } ليس في رق شيء من المخلوقات { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ } وهي نفس أيضاً إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار { وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } وهي العابدة/ { وَإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } [آل عمران: 36] وهوالشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقياً حسناً غير مشوب بالعوائق والعلائق { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } الاستعداد { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا } وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت { قَالَ أَنّىٰ لَكِ هَـٰذَا } الرزق العظيم { قَالَتْ هُوَ } مفاض { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } منزه عن الحمل بيد الأفكار { إِنَّ ٱللَّهَ } الجامع لصفات الجمال والجلال { يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ } ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37] فسبحانه من إله وجواد كريم وهاب.