التفاسير

< >
عرض

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ
٦٣
-آل عمران

روح المعاني

{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضياً، ويحتمل أن يكون مضارعاً وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفاً، وأصله تتولوا { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ } أي بهم أو بكم، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد، وقيل: المعنى على أن الله عليم بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك، والجملة على هذا أيضاً عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلى أنه ليس الجزاء والعقاب، والكلام منساق لتسليته صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ما فيه.

ومن باب الإشارة في الآيات: { فَلَمَّا أَحَسَّ } أي شاهد { عِيْسى } بواسطة النور الإلۤهي المشرق عليه { مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ } أي ظلمته، أو نفسه فإن المعاني تظهر للكمل على صور مختلفة باختلافها فيرونها. وحكي عن الباز قدس سره أنه قال: إن الليل والنهار يأتياني فيخبراني بما يحدث فيهما، وعن بعض العارفين أنه يشاهد أعمال العباد كيف تصعد إلى السماء ويرى البلاء النازل منها { قَالَ مَنْ أَنصَارِى } في حال دعوتي { إِلَى ٱللَّهِ } سبحانه بأن يلتفت إلى الاشتغال بتكميل نفسه وتهذيب أخلاقها حتى يصلح لتربية الناقصين فينصرني ويعينني في تكميل الناقص وإرشاد الضال { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ } المبيضون ثياب وجودهم بمياه العبادة ومطرقة المجاهدة وشمس المراقبة { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } أي أعوان الفانين فيه الباقين به ومنهم عيسى عليه السلام { ءامنَّا بِٱللَّهِ } الإيمان الكامل { وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 52] أي منقادون لأمرك حيث إنه أمر الله سبحانه { رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ } وهو ما نورت به قلوب أصفيائك من علوم غيبك { وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ } فيما أظهر من أوامرك ونواهيك رجاء أن يوصلنا ذلك إلى محبتك { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } [آل عمران: 53] أي مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك، أو الحاضرين لك المراقبين لأمرك { وَمَكَرُواْ } أي الذين أحس منهم الكفر واحتالوا مع أهل الله بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم لأنه المزين ذلك لهم كما قال سبحانه: { { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [الأنعام: 108] فهو الماكر/ في الحقيقة وهذا معنى { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [آل عمران: 54] عند بعض، والأولى القول باختلاف المكرين على ما يقتضيه مقام الفرق، وقد سئل بعضهم كيف يمكر الله؟ فصاح وقال: لا علة لصنعه وأنشأ يقول:

فديتك قد جبلت على هواكا ونفسي لا تنازعني سواكا
أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبق حبك لي حراكا
ويقبح من ـ سواك الفعل ـ عندي ـ وتفعله فيحسن منك ذاكا ـ

{ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ } عن رسم الحدوثية { وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } بنعت الربوبية { وَمُطَهّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [آل عمران: 55] بشغل سرك عن مطالعة الأغيار، أو متوفيك عنك، وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية ومطهرك من إرادتك بالكلية، وقيل: إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أحس منهم الكفر وعلم أنهم بعثوا من يقتله قال للحواريين: إني ذاهب إلى أبـي وأبيكم السماوي أي متصل بروح القدس ومتطهر من علاقة عالم الرجس فأمدكم بالفيض كي تستجاب دعوتكم الخلق بعدي، فشبه للقوم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله تعالى بصورة حقيقة عيسى فظنوها هو فصلبوها ولم يعلموا أن الله تعالى رفعه إلى السماء الرابعة التي هي فلك الشمس، وحكمة رفعه إلى ذلك أن روحانيته عبارة عن إسرافيل عليه الصلاة والسلام ويشاركه المسيح في سر النفخ. ومن قال: إنه رفع إلى السماء الدنيا بين الحكمة بأن إفاضة روحه كانت بواسطة جبريل عليه السلام وهو عبارة عن روحانية فلك القمر، وبأن القمر في السماء الدنيا وهو آية ليلية تناسب علم الباطن الذي أوتيه المسيح عليه السلام، ولم يعتبر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم القول: بأنه يدور حول العرش لأن ذلك مقام النهاية في الكمال، ولهذا لم يعرج إليه سوى صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم الجامع بين الظاهر والباطن { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ } في أن كلاً منهما خارق للعادة خارج عن دائرتها وإن افترقا في أن عيسى عليه الصلاة والسلام بلا ذكر بل من نطفة أنثى فقط كان في بعضها قوة العقد وفي البعض الآخر قوة الانعقاد كسائر النطف المركبة من منيين في أحدهما القوة العاقدة وفي الأخرى المنعقدة، وأن آدم عليه الصلاة والسلام بلا ذكر ولا أنثى { خلقه من تراب { { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران: 59] أي صوّر قالبه من ذلك { { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] إشارة إلى نفخ الروح فيه وكونه من عالم الأمر نظراً إلى روحه المقدسة التي لم ترتكض في رحم { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ } أي الحق، أو في عيسى عليه السلام بالحجج الباطلة { فَقُلْ تَعَالَوْاْ } [آل عمران: 61] الخ أي فادعه إلى المباهلة بالهيئة المذكورة. قال بعض العارفين: اعلم أن لمباهلة الأنبياء عليهم السلام تأثيراً عظيماً سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله تعالى إياهم به وهو المؤثر بإذن الله تعالى في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال أبداننا من روحنا بالعوارض الواردة عليه ـ كالغضب والخوف والفكر في أحوال المعشوق وغير ذلك ـ وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من عوارض أرواحنا فإذا اتصل نفس قدسي به، أو ببعض أرواح الأجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد حسب ذلك الاتصال ولذا انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه الصلاة والسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية انتهى. وادعى بعضهم أن لكل نفس تأثيراً لكنه يختلف حسب اختلاف مراتب النفوس وتفاوت مراتب التوجهات إلى عام التجرد ـ وفيه كلام طويل ـ ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه، هذا وتطبيق ما في الآفاق على / ما في الأنفس ظاهر لمن أحاط خبراً بما قدمناه في الآيات الأول، والله تعالى الموفق.