التفاسير

< >
عرض

أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
٨٣
-آل عمران

روح المعاني

{ أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ } ذكر الواحدي عن ابن عباس أنه قال "اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله/ صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم عليه السلام كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولانأخذ بدينك" فأنزل الله تعالى هذه الآية، والجملة في النظم معطوفة على مجموع الشرط والجزاء، وقيل: على الجزاء فقط، وعطف الإنشاء على الإخبار مغتفر هنا عند المانعين، والهمزة على التقديرين متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه للإنكار، وقيل: إنها معطوفة على محذوف تقديره ـ أيتولون فغير دين الله يبغون ـ قال ابن هشام: والأول: مذهب سيبويه والجمهور، وجزم به الزمخشري في مواضع، وجوز الثاني في بعض ـ ويضعفه ما فيه من التكلف ـ وأنه غير مطرد، أما الأول: فلدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه على قولهم: أقل لفظاً مع أن في هذا التجوز تنبيهاً على أصالة شيء في شيء أي أصالة الهمزة في التصدر، وأما الثاني: فلأنه غير ممكن في نحو { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد: 33] انتهى.

وتعقبه الشمس بن الصائغ بأنه أي مانع من تقدير ألا مدبر للموجودات ـ فمن هو قائم على كل نفس ـ على الاستفهام التقريري المقصود به تقرير ثبوت الصانع، والمعنى ـ أينتفى المدبر فلا أحد قائم على كل نفس ـ لا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو ـ وهو أولى من تقدير البدر ابن الدماميني ـ أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه، وجعله الهمزة للإنكار التوبيخي، وعلى العلات يوشك أن يكون التفصيل في هذه المسألة أولى بأن يقال: إن انساق ذلك المقدر للذهن قيل: بالتقدير، وإلا قيل: بما قاله الجماعة، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار لا للحصر كما توهم لأن المنكر اتخاذ غير الله رباً ولو معه، ودعوى أنه إشارة إلى أن دين غير الله لا يجامع دينه في الطلب، فالتقديم للتخصيص، والإنكار متوجه إليه أي أيخصون غير دين الله بالطلب ـ تكلف، وقول أبـي حيان: إن تعليل التقديم بما تقدم لا تحقيق فيه لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ }، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه { يَبْغُونَ } بالفاصلة لا تحقيق فيه عند ذوي التحقيق لأنا لم ندع توجه الإنكار إلى الذوات كما لا يخفى.

وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية لحفص ويعقوب ـ يبغون ـ بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على معنى ـ أتتولون ـ ـ أو ـ أتفسقون، وتكفرون فغير دين الله تبغون ـ وذهب بعضهم إلى أنه التفات فعنده لا تقدير، وعلى تقدير التقدير يجيء قصد الإنكار فيما أشير إليه ولا ينافيه لأنه منسحب عليه.

{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَْرْضِ } جملة حالية مؤكدة للإنكار ـ أي كيف يبغون ويطلبون غير دينه، والحالة هذه ـ { طَوْعًا وَكَرْهًا } مصدران في موضع الحال أي طائعين وكارهين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مصدرين على غير المصدر لأنه أسلم بمعنى انقاد وأطاع قيل: وفيه نظر لأنه ظاهر في { طَوْعاً } لموافقة معناه ما قبله لا في { كَرْهاً } والقول بأن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل غير نافع، وقد يدفع بأن الكره فيه انقياد أيضاً، والطوع مصدر طاع يطوع، كالإطاعة مصدر أطاع يطيع ولم يفرقوا بينهما، وقيل: طاعه يطوعه انقاد له، وأطاعه يطيعه بمعنى مضى لأمره، وطاوعه بمعنى وافقه، وفي معنى الآية أقوال: الأول: أن المراد من الإسلام بالطوع الإسلام الناشيء عن العلم مطلقاً سواء كان حاصلاً للاستدلال كما في الكثير منا، أو بدون استدلال وإعمال فكر ـ كما في الملائكة ـ ومن الإسلام بالكره ما كان حاصلاً بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام، الثاني: أن المراد انقادوا له تعالى مختارين لأمره ـ كالملائكة والمؤمنين ـ ومسخرين لإرادته ـ كالكفرة ـ فإنهم مسخرون لإرادة كفرهم/ إذ لا يقع ما لا يريده تعالى، وهذا لا ينافي على ما قيل: الجزء الاختياري حتى لا يكون لهم اختيار في الجملة فيكون قولاً بمذهب الجبرية، ولا يستدعي عدم توجه تعذيبهم على الكفر ولا عدم الفرق بين المؤمن والكافر بناءاًعلى أن الجميع لا يفعلون إلا ما أراده الله تعالى بهم كما وهم، الثالث: ما أشار إليه بعض ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الإسلام طوعاً هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارضة ظلمة نفسانية وحيلولة حجب الأنانية، والإسلام كرهاً هو الانقياد مع توسط المعارضات والوساوس وحيلولة الحجب والتعلق بالوسائط، والأول: مثل إسلام الملائكة وبعض من في الأرض من المصطفين الأخيار، والثاني: مثل إسلام الكثير ممن تقلبه الشكوك جنباً إلى جنب حتى غدا يقول:

لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم

والكفار من القسم الثاني عند أهل الله تعالى لأنهم أثبتوا صانعاً أيضاً إلا أن ظلمة أنفسهم حالت بينهم وبين الوقوف على الحق { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [يوسف: 106] { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَْرْضَ.... لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [العنكبوت: 61] وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وأخرج ابن جرير، وغيره عن أبـي العالية أنه قال: كل آدمي أقرّ على نفسه بأن الله تعالى ربـي وأنا عبده فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً، ومن أخلص لله تعالى العبودية فهو الذي أسلم طوعاً، وقرأ الأعمش ـ كرهاً ـ بالضم.

{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أي إلى جزائه تصيرون على المشهور فبادروا إلى دينه، ولا تخالفوا الإسلام، وجوزوا في الجملة أن تكون مستأنفة للأخبار بما تضمنته من التهديد، وأن تكون معطوفة على { وَلَهُ أَسْلَمَ } فهي حالية أيضاً، وقرأ عاصم بياء الغيبة، والضمير ـ لمن ـ أو لمن عاد إليه ضمير { يَبْغُونَ } فإن قرىء بالخطاب فهو التفات، وقرأ الباقون بالخطاب، والضمير عائد لمن عاد إليه ضمير { يَبْغُونَ } فعلى الغيبة فيه التفات أيضاً.