التفاسير

< >
عرض

وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
-فاطر

روح المعاني

{ وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ } طيب { فُرَاتٌ } كاسر العطش ومزيله. وقال الراغب: الفرات الماء العذب يقال للواحد والجمع، ولعل الوصف على هذا على طرز أسود حالك وأصفر فاقع { سَائِغٌ شَرَابُهُ } سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس. وقرأ عيسى { سيغ } كميت بالتشديد، وجاء كذلك عن أبـي عمرو وعاصم، وقرأ عيسى أيضاً { سيغ } كميت بالتخفيف { وَهَـٰذَا مِلْحٌ } متغير طعمه التغير المعروف، وقرأ أبو نهيك وطلحة { مِلْحٌ } بفتح الميم وكسر اللام، قال أبو الفتح الرازي: وهي لغة شاذة، وجوز أن يكون مقصوراً من مالح للتخفيف، وهو مبني على ورود مالح والحق وروده بقلة وليس بلغة رديئة كما قيل. وفرق الإمام بين الملح والمالح بأن الملح الماء الذي فيه الطعم المعروف من أصل الخلقة كماء البحر والمالح الماء الذي وضع فيه ملح فتغير طعمه ولا يقال فيه إلا مالح ولم أره لغيره، وقال بعضهم: لم يرد مالح أصلاً وهو قول ليس بالمليح { أُجَاجٌ } شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار وأجتها، ومن هنا قيل هو الذي يحرق بملوحته، وهذا مثل ضرب للمؤمن والكافر.

وقوله تعالى: { وَمِن كُلّ } أي من كل واحد منهما { تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } أي غضا جديداً وهو السمك على ما روي عن السدي، وقيل الطير والسمك واختار كثير الأول، والتعبير عن السمك باللحم مع كونه حيواناً قيل للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على المسارعة إلى أكله لئلا يتسارع إليه الفساد كما ينبىء عنه جعل كل من البحرين مبدأ أكله.

واستدل مالك والثوري بالآية حيث سمي فيها السمك لحما على حنث من حلف لا يأكل لحماً وأكل سمكاً، وقال غيرهما: لا يحنث لأن مبني الأيمان على العرف وهو فيه لا يسمى لحماً ولذلك لا يحنث من حلف لا يركب دابة فركب كافراً مع أن الله تعالى سماه دابة في قوله سبحانه: { { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال: 55] ولا يبعد عندي أن يراد بلحماً لحم السمك ودعوى التلويح بانحصار الانتفاع بالسمك في الأكل لا أظنها تامّة.

{ وَتَسْتَخْرِجُونَ } ظاهره ومن كل تستخرجون { حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } والحلية التي تستخرج من البحر الملح اللؤلؤ والمرجان ويلبس ذلك الرجال والنساء وإن اختلفت كيفية اللبس، أو يقال عبر عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم، ولا نعلم حلية تستخرج من البحر العذب، ولا يظهر هنا اعتبار إسناد ما للبعض إلى الكل كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمٰن: 22] وكون بعض الصخور التي في مجاري السيول قد تكسر فيوجد فيها ماس وهو حلية تلبس إن صح لا ينفع اعتباره هنا إذ ليس فيه استخراج الحلية من البحر العذب ظاهراً، وقيل: لا يبعد أن تكون الحلية المستخرجة من ذلك عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف / والخناجر مثلاً فتحمل ويتحلى بها، وفيه ما فيه لا سيما إذا كانت الحلية كالحلي ما يتزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة، وقال الخفاجي: لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره، ولا يخفى ما فيه من البعد.

وذهب بعض الأجلة للخلاص من القيل والقال أن المراد وتستخرجون من البحر الملح خاصة حلية تلبسونها ويشعر به كلام السدي يحتمل ثلاثة أوجه، الأول أنه استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع. والثاني أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الاستعارة كما زعم الطيبـي في شيء بل إنما هو استدراك لدعوى الاشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الاستدراك مخصوص بالملح، وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكافر خلو من النفع فهو على طريقة قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74] ثم قال سبحانه: { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَـٰرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74] والثالث أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض الفوائد تفاوتاً فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وان اتفق اتفاقهما في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة { وَمِن كُلّ } الخ حالية.

وعندي خير الأوجه الثلاثة أوسطها، وعلى كل يحصل الجواب عما قيل كيف يناسب ذكر منافع البحر الملح وقد شبه به الكافر؟ وقال أبو حيان: إن قوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ } الخ لبيان ما يستدل به كل عاقل على أنه مما لا مدخل لصنم فيه. وقال الإمام: الأظهر أنه دليل لكمال قدرة الله عز وجل، وما ذكرنا أولاً من أنه تمثيل للمؤمن والكافر هو المشهور رواية ودراية وفيه من محاسن البلاغة ما فيه.

{ وَتَرَى ٱلْفُلْكَ } السفن { فِيهِ } أي في كل منهما وانظر هل يحسن رجوع الضمير للبحر الملح لانسياق الذهن إليه من قوله سبحانه: { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } بناء على أن المعروف استخراجها منه خاصة وأمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ولذا اقتصر على رؤية الفلك فيه على الحال التي ذكر الله تعالى، وأفرد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط { مَوَاخِرَ } شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة فالمخر الشق. قال الراغب: يقال مخرت السفينة مخراً ومخوراً إذا شقت الماء بجؤجئها، وفي «الكشاف» ((يقال: مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بنات مخر لأنها تمخر الهواء، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره)) وقيل المخر صوت جري الفلك وجاء في سورة النحل [14] { { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ } بتقديم { مَوَاخِرَ } وتأخير { فِيهِ } وعكس هٰهنا فقيل في وجه لأنه علق { فِيهِ } هنا بترى وثمت بمواخر، ولا يحسم مادة السؤال. والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34] فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطراداً أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفاً فقدم فيه { فِيهِ } إيذاناً بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، وكأن الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية { وَلِتَبْتَغُواْ } بالواو، ومخالفة ما هنا لذلك / اقتضت ترك الواو في قوله سبحانه: { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي من فضل الله تعالى بالنقلة فيها وهو سبحانه وإن لم يجر له ذكر في الآية فقد جرى له تعالى ذكر فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه عز شأنه. واللام متعلقة بمواخر، وجوز تعلقها بمحذوف دل عليه الأفعال المذكورة كسخر البحرين وهيأهما أو فعل ذلك لتبتغوا من فضله.

{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } تعرفون حقوقه تعالى فتقومون بطاعته عز وجل وتوحيده سبحانه. ولعل للتعليل على ما عليه جمع من الأجلة وقد قدمنا ذلك، وقال كثير: هي للترجي ولما كان محالاً عليه تعالى كان المراد اقتضاء ما ذكر من النعم للشكر حتى كأن كل أحد يترجاه من المنعم عليه بها فهو تمثيل يؤل إلى أمره تعالى بالشكر للمخاطبين.