التفاسير

< >
عرض

إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً
١٣٣
-النساء

روح المعاني

{ إِن يَشَأْ } إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين { يُذْهِبْكُمْ } يفنكم ويهلككم. { أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } أي يوجد مكانكم دفعة قوماً آخرين من البشر، فالخطاب لنوع من الناس، وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبـي هريرة رضي الله تعالى عنه "أنه لما نزل قوله تعالى: / { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [محمد: 38] ضرب النبـي صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقال: إنهم قوم هذا" وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي، وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقاً آخرين أي جنساً غير جنس الناس، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز ـ كما قيل ـ لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن ـ غيراً ـ تقع على المغاير في جنس أو وصف، ـ وآخر ـ لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.

وفي «درّة الغواص في أوهام الخواص» أنهم يقولون: ابتعت عبداً وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى: { { أَفَرَءيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [النجم: 19- 20] وقوله سبحانه: { { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 185] فوصف جل اسمه ـ مناة ـ بالأخرى لما جانست ـ العزى اللات ـ ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت: قال: الفند الزماني، وقال آخر: كان تقدير الكلام، وقال آخر: من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها، وكثرة استعمال آخر في النطق، وفي «الدر المصون» إن هذا غير متفق عليه، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة؛ وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف ـ وهنا ليست بخاصة ـ فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف؛ وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة: إن العرب لا تقول: مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعاً وإفراداً، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم:

ولقد (شفعتهما بآخر ثالث) وأبـى الفرار إلى الغداة تكرمى

وقال أبو حية النميري:

وكنت أمشي على ثنتين معتدلا فصرت أمشيء على (أخرى) من الشجر

وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في اللفظ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطؤ ولذلك لو قلت: جاءني زيد وآخر كان سائغاً لأن التقدير ورجل آخر، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى؛ وكذا اشتريت فرساً ومركوباً آخر سائغ، وإن كان المركوب الآخر جملاً لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على جهة الإشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو قام أحد الزيدين وقعد الآخر، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب، وبالآخر مقابل البائع، وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف، فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر، واشترطه ابن جني، والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة:

والخيل تقتحم الغبار عوابسا من بين منظمة (وآخر ينظم)

/ وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلو قلت: جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز، ولو قلت: أكلت رغيفاً، وهذا قميص آخر لم يحسن، وأما قول الشاعر:

صلى على عزة الرحمن وابنتها ليلى وصلى على جاراتها (الأخر)

فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها، ولولا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات، بل كان يقول: وصلى على بناتها الأخر، وقد قوبل في البيت أيضاً ـ أخر ـ وهو جمع بابنتها وهو مفرد، وزعم السهيلي أن ـ أخرى ـ في قوله تعالى: { { وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [النجم: 20] استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير مناة الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد؛ فجعلها ثالثة اللاة والعزى، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى، ألا ترى أن كل واحدة منهنّ ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى. وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها، وفي «المسائل الصغرى» للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله، فلو قلت: أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام، وهو يشبه ـ سائر وبقية وبعض ـ في أنه لا يستعمل إلا في جنسه، فلو قلت: ضربت رجلاً وتركت سائر النساء لم يكن كلاماً، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرساً وحماراً آخر نظراً إلى أنه دابة قال امرؤ القيس:

إذا قلت: هذا صاحبـي ورضيته وقرت به العينان بدلت (آخرا)

وفي الحديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة في مرضه فقال: انظروا من أتكيء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما" . وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلاً، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصاً في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ } أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين { قَدِيراً } بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.