التفاسير

< >
عرض

مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً
١٤٧
-النساء

روح المعاني

{ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ } خطاب للمنافقين ـ وقيل: للمؤمنين، وضعف ـ مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجوداً وعدماً إنما هو كفرهم لا شيء آخر، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من (ثباتهم عند توبتهم)، و { مَا } استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، وقيل: نافية والباء سببية، وقيل: زائدة أي أيّ شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب [به] نفعاً أو يستدفع به ضرراً كما هو شأن الملوك، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكاً لا محيص عنه بالخلود في النار، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته، فقد ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبعث منه شوق إلى معرفة المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبـي والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه، وإنما عرف منعماً مّا فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه؛ ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان، ويقول:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان، فلا حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير أي آمنتم وشكرتم، وأما القول: بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدماً لا يليق بالكلام الفصيح فضلاً عن المعجز، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجهاً ونكتة، وذكر النيسابوري وجهاً آخر في التقديم لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب فقال: لعل الوجه في ذلك أن الآي مسوقة في شأن المنافقين ولا نزاع في إيمانهم ظاهراً وإنما النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني، فكان تقديم الشكر هٰهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى، ولايخفى أنه لم يحمل الشكر في الآية على الشكر المبهم، ولا يخلو عن حسن.

/ وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري، ثم رأيت العلامة الطيبـي عليه الرحمة صرح به أن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين، وأن قوله سبحانه: { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ } متصل بقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } [النساء: 145] الخ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم والانخراط في زمرة الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران، ثم التفت تعريضاً لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلاً على أن يوقعهم في تلك الورطات، فقوله عز وجل: { إِن شَكَرْتُمْ } فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله عز من قائل: { وَءامَنتُمْ } تفسير له وتقرير لمعناه أي: وآمنتم الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الايمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا:

{ وَكَانَ ٱللَّهُ شَـٰكِراً } أي مثيباً على الشكر { عَلِيماً } بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملاً إلى الشاكر، وإلى هذا ذهب الإمام، وقال غير واحد: الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعماً في الآخرة غير محدودة، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية، وقيل: معناه المثني على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: أما في قوله سبحانه: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنّسَاء } إلى قوله عز وجل: { { وَكَانَ ٱللَّهُ وٰسِعاً حَكِيماً } [النساء: 127ـ130] فقد قال النيسابوري فيه: إن النفس للروح كالمرأة للزوج، و{ يَتَامَى ٱلنِّسَآءِ } صفات النفوس، و { مَا كُتِبَ لَهُنَّ } ما أوجب الله تعالى من الحقوق. وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ } [النساء: 128] فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى، والنفس تشح بترك حظوظها { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ } في رفض حظوظ النفس، فقد جاء في الخبر "إن لنفسك عليك حقاً" { { فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } [النساء: 129] بين العالم العلوي والعالم السفلي { وَإِن يَتَفَرَّقَا } أي الروح والنفس { يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } فالروح يجتذب بجذبة ـ خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته ـ فيستغني عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تجتذب بجذبة { { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } إلى سعة غنى الله تعالى في عالم { { فَٱدْخُلِى فِى عِبَادِى * وَٱدْخُلِى جَنَّتِى } [الفجر: 28ـ30] انتهى، ولايخفى أن باب التأويل واسع، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد؛ وأما في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ } الخ فنقول: إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونوا ثابتين في مقام العدالة التي / هي أشرف الفضائل { { قَوَّامِينَ } [النساء: 135] بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك، ثم قال جل وعلا: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } من حيث البرهان { { ءَامِنُواْ } [النساء: 136] من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث العيان أو: { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالإيمان التقليدي { ءامَنُواْ } بالإيمان العيني، أو المراد يا أيها المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } بالتقليد { ثُمَّ كَفَرُواْ } إذ لم يكن للتقليد أصل { ثُمَّ ءَامَنُواْ } بالاستدلال العقلي { ثُمَّ كَفَرُواْ } إذ لم تكن عقولهم مشرفة بالنور الإلهي { ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً } بالشبهات والاعتراضات، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله تعالى، والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رياسة القوم. فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا وآمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكاراً على إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق: إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سراباً بقيعة، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله تعالى أسرارهم { لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد { { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } [النساء: 137] إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء } لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء منجذب إليه { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } لعدم الجنسية { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ } أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوي بمالهم وجاههم { { فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [النساء: 139] فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عز وجل، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم ـ إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ـ لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم { يُرَاءونَ ٱلنَّاسَ } لاحتجابهم بهم عن رؤية الله تعالى { { وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء: 142] لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها:

حنين أعرابية حنت إلى أطلال نجد فارقته ومرخه

ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: "أرحنا يا بلال" يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا منها، وظن الأخير برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر والعياذ بالله تعالى؛ وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى، وما قدر السوى عندهم ليراءوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى، نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنباً، ولهذا قال قائلهم:

بذكر الله تزداد الذنوب وتنكشف الرذائل والعيوب
وترك الذكر أفضل كل شيء وشمس الذات ليس لها مغيب

لكن ذكر بعضهم أنه لا يصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة الذكر، وأشار إلى مقام عال من قال:

لا يترك الذكر إلا من يشاهده وليس يشهده من ليس يذكره
والذكر ستر على مذكوره ستر فحين أذكره في الحال يستره
فلا أزال على الأحوال أشهده ولا أزال على الأنفاس أذكره

/ { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } لئلا تتعدى إليكم ظلمة كفرهم { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } [النساء: 144] حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى ولايتهم { { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } لتحيرهم بضعف استعدادهم { { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } [النساء: 145] ينصرهم من عذاب الله تعالى لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله تعالى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } رجعوا إلى الله تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجاب القوى { وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ } بالتمسك بأوامره والتوجه إليه سبحانه { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } بإزالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوى { فَأُوْلَٰـئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الصادقين { { وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 146] من مشاهدة تجليات الصفات وجنات الأفعال { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } بالتوبة وإصلاح ما فسد والاعتصام بحبل الأوامر والتوجه إلى الله عز وجل وإخلاص الدين له سبحانه { وَءامَنتُمْ } الإيمان الحائز لذلك { وَكَانَ ٱللَّهُ شَـٰكِراً عَلِيماً } [النساء: 147] فيثيب ويوصل الثواب كاملاً، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.