التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
١٦٣
-النساء

روح المعاني

{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ } جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [أن ينزل عليهم] كتاباً من السماء، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لا ريب في نبوّتهم، وقيل: هو تعليل لقوله تعالى: { { ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ } [النساء: 162]. وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال سكين وعدي بن زيد: يا محمد ما نعلم الله تعالى أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية» والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيحاءاً مثل إيحائنا إلى نوح عليه السلام، أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفاً كما هو رأي سيبويه أي إنا أوحينا الإيحاء [حال كونه] مشبهاً بإيحائنا الخ، و (ما) في الوجهين مصدرية. وجوّز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولاً به أي أوحينا إليك مثل الذي أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس بالمرضي، و (من بعده) متعلق ـ بأوحينا ـ ولم يجوّزوا أن يكون حالاً من النبيين لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالاً للجثث، وبدأ سبحانه بنوح عليه السلام تهديداً لهم لأنه أول نبـي عوقب قومه، وقيل: لأنه أول من شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام، وتعقب بالمنع، وقيل: لمشابهته بنبينا صلى الله عليه وسلم في عموم الدعوة لجميع أهل الأرض، ولا يخلو عن نظر لأن عموم دعوته عليه السلام اتفاقي لا قصدي، وعموم الفرق على القول به ـ وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ـ ليس قطعي الدلالة على ذلك كما لا يخفى.

{ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } عطف على { أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ } داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم { وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَــٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ } وهم أولاد يعقوب عليه السلام في المشهور، وقال غير واحد: إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل، وقد بعث منهم عدة رسل، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول: أرسلت إلى بني تميم، وتريد أرسلت إلى وجوههم، ولم يصح أن الأسباط الذين هم أخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندي ـ وألف فيه الجلال السيوطي «رسالة» ـ خلافه { وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَـٰرُونَ وَسُلَيْمَـٰنَ } ذكروا مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفاً لهم وإظهاراً لفضلهم على ما هو المعروف في ذكر الخاص بعد العام في مثل هذا المقام، وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي، وبدأ بذكر إبراهيم بعد التكرير / لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهوري وغيره. وقدم عيسى عليه السلام على من بعده تحقيقاً لنبوته وقطعاً لما رآه اليهود فيه، وقيل: ليكون الابتداء بواحد من أولي العزم بعد تغير صفة المتعاطفات إفراداً وجمعاً وكل هذه الأسماء ـ على ما ذكره أبو البقاء ـ أعجمية إلا الأسباط، وفي ذلك خلاف معروف، وفي يونس لغات أفصحها ضم النون من غير همز، ويجوز فتحها وكسرها مع الهمز وتركه.

{ وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } عطف على { أَوْحَيْنَا } داخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء، وكما آتينا داود زبوراً ـ وإيثاره على أوحينا إلى داود ـ لتحقق المماثلة في أمر خاص، وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء؛ والزبور بفتح الزاي عند الجمهور وهو فعول بمعنى مفعول ـ كالحلوب والركوب ـ كما نص عليه أبو البقاء. وقرأ حمزة وخلف { زَبُوراً } بضم الزاي حيث وقع، وهو جمع زبر بكسر فسكون بمعنى مزبور أي مكتوب، أو زَبْر بالفتح والسكون كفلس وفلوس، وقيل: إنه مصدر كالقعود والجلوس، وقيل: إنه جمع زبور على حذف الزوائد، وعلى العلات جعل اسماً للكتاب المنزل على داود عليه السلام، وكان إنزاله عليه عليه السلام منجماً وبذلك يحصل الإلزام، «وكان فيه ـ كما قال القرطبـي ـ مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام، وإنما هي حكِمَ ومواعظ» والتحميد والتمجيد والثناء على الله تعالى شأنه.