التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

روح المعاني

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } إرشاد لإخلاص الصلاة التي هي رأس العبادة من شوائب الكدر ليجمعوا بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق المبينة فيما تقدم وبهذا يحصل الربط، ويجوز أن يقال: لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا ههنا عما يؤدي إليه من حيث لا يحتسبون، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عليّ كرم الله تعالى وجهه قال: «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت». وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه: «إن إمام القوم يومئذٍ هو عبد الرحمن وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة، والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناءاً بشأن الحكم، والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة، وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر، ومادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت، والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرءُونه فيها، وأخرج ابن أبـي حاتم عن ابن جبير أن المعنى ـ لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا ما تقرءُونه في صلاتكم ـ ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءُونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي، وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار { مَا تَقُولُونَ } على ما تقرؤون حينئذٍ يكون عارياً عن الداعي، وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي: { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } فإنه يدل عليه بحسب الظاهر، فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيماً له، وفي الخبر «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» ويأباه ظاهر قوله تعالى: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين، وفي الكلام حينئذٍ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به، وروي عن جعفر رضي الله تعالى عنه والضحاك ـ وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم، وأيد بما أخرجه البخاري عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول" وروي مثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها ـ وفيه بعد ـ وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك، وأياً مّا كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصاً بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه، نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا. / والحاصل كما قال الشهاب: أنه مكلف بها في كل حال، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه، ولو لم يكن مأموراً بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها ـ وقد نص عليه الجصاص في «الأحكام» ـ وفصله انتهى، وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبـي صلى الله عليه وسلم تعظيماً له عليه الصلاة والسلام وتوقيراً، ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول، وقد روي أنهم كانوا بعدما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، وقرىء { سُكَـٰرَىٰ } بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى. وقرأ الأعمش ـ سكرى ـ بضم السين على أنه صفة ـ كحبلى ـ وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى، والنخعي ـ سكرى ـ بالفتح، وهو إما صفة مفردة صفة جماعة كما في الضم، وإما جمع تكسير كجرحى، وإنما جمع سكران عليه لما فيه من الآفة اللاحقة للعقل، والصيغة على قراءة الجمهور جمع تكسير عند سيبويه، واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع، ورجح الأول.

{ وَلاَ جُنُباً } عطف على قوله تعالى: { وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } فإنه في حيز النصب كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً ـ قاله غير واحد ـ وقال الشهاب نقلاً عن «البحر»: إن هذا حكم الإعراب، وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاءوا وهم سكارى إذ معنى الأول: جاؤوا كذلك، والثاني: جاءوا وهم كذلك باستئناف الإثبات ـ ذكره عبد القاهر ـ ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه، ويجوز تقدمه واستمراره، ولذا قال السبكي في «الأشباه»: لو قال: لله تعالى عليّ أن أعتكف صائماً لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الاعتكاف بصوم رمضان، ولو قال: وأنا صائم أجزأه، ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة، وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو ـ جاء زيد وقد طلعت الشمس ـ والحال المفردة صفة معنى فإذا قال: لله تعالى عليّ أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صوماً فيصح في رمضان، ولو قال: صائماً نذر صومه فلا يصح فيه؛ وهذه المسألة نقلها الإسنوي في «التمهيد» ولم يبين وجهها، ولم نر لأئمتنا فيها كلاماً انتهى كلامه. ولم يبينرحمه الله تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة، وبين العلامة الطيبـي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال: فائدتها ـ والعلم عند الله تعالى ـ الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين، ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ } الخ، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب، ومن ثَمّ رخص لهم بالأعذار فتأمل جداً، ـ والجنب ـ من أصابته الجنابة يستوي فيه على اللغة الفصيحة المذكر والمؤنث والواحد والتثنية والجمع لجريانه مجرى المصدر وإن لم يكنه ـ كما قاله بعض المحققين ـ ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول جنبان وأجناب وجنوب، واشتقاقه كما قال أبو البقاء: من المجانبة وهي المباعدة.

{ إِلاَّ عَابِرِى } أي مجتازي { سَبِيلٍ } أي طريق، والمراد إلا مسافرين وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير { لاَ تَقْرَبُواْ } باعتبار تقييده بالحال الثانية دون الأولى، والعامل فيه معنى النهي أي لا تقربوا الصلاة جنباً في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أنه في حالة السفر ينتهي حكم النهي لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفي الشمول في الجملة من غير دلالة / على انتفاء خصوصية البعض المنتفي ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا ثبوت نقيضه لا كلياً ولا جزئياً فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة، نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية، فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل، وقد ورد عقيبه على طريق البيان، قاله المولى شيخ الإسلام، وقيل: هو صفة لجنباً على أن { إِلا } بمعنى غير، واعترض بأن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء ولا تعذر هنا لعموم النكرة بالنفي، وأجيب بأن هذا الشرط في التوصيف ذكره ابن الحاجب وقد خالفه فيه النحاة، ورجح بعضهم الوصفية هنا بناءاً على أن الكلام على تقدير الاستثناء يفيد الحصر ولا حصر لورود المريض إشكالاً عليه بخلافه على تقدير الوصفية، وادعى البعض إفادة الكلام له مطلقاً وأن المريض يرد إشكالاً إلا أن يؤل ـ كما ستعرفه ـ ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد، ـ وبه قال الشافعيرحمه الله تعالى ـ والمشهور عندنا منع الجنب المسجد مطلقاً، ورخص علي كرم الله تعالى وجهه كما في خبر الترمذي عن أبـي سعيد بناءاً على ما فسره ضرار بن صرد حين سأله عن معناه علي بن المنذر، وكونه كرم الله تعالى وجهه رخص ثم منع لم يثبت عندي وإن نقله البعض، ونقل الجصاص في «الأحكام» أنه لا يجوز الدخول إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه، وعن الليث أن الجنب لا يمرّ فيه إلا أن يكون بابه في المسجد، فقد روي أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممراً إلا فيه فرخص لهم في ذلك.

{ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة، ولعل تقديم الاستثناء عليه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه السورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقاً إلى البيان وروماً لزيادة تقربه في الأذهان، وقيل: لما لم يكن لقوله سبحانه: { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } مدخل في المقصود إذ المقصود إنما هو صحة الصلاة جنباً أخره وقدم الاستثناء عليه، وكان الظاهر عدم ذكره لذلك إلا أنه ذكره تنبيهاً على أن الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال، وفي الآية الكريمة رمز إلى أنه ينبغي للمصلي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها لأنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى أو لأنه إذا صين موضع الصلاة عمن به حدث فلأن يصان القلب الذي هو عرش الرحمن عن خاطر غير طاهر ظاهر الأولوية.

{ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ } تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار، والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة الذي يدور عليها أمر الرخصة، ولهذا قيل: المراد بغير عابري سبيل غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته. وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر ـ وإنما لم يقل: إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حساً أو حكماً ـ لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام، والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقاً سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله، وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها، وأخرج البيهقي في «المعرفة» عن ابن عباس يرفعه «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم» والذي تقرر في الفروع: / أن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم، ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك ـ كالمبطون ـ أو بالاستعمال ـ كمن به حصبة أو جدري ـ ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه، وتفصيل ذلك في كتب الفقه.

{ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } عطف على (مرضى) أي أو كنتم على سفر مّا طال أو قصر، ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه، وفي «الهداية»: «ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر [نحو] ميل أو أكثر يتيمم»، والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحاً مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته. فإن الاستثناء ـ كما أشار إليه شيخ الإسلام ـ بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلاً عن الدلالة على كيفيته، وقيل: ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال، وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها، وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان حكم آخر لم يذكر قبل، وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه: { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } ويبتدءون بقوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ } الخ بل التعبير بالقرب يومىء إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير بـ { عَابِرِى سَبِيلٍ } هناك وبـ { عَلَىٰ سَفَرٍ } هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه، وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره، وقيل: لأنه سبب النزول، فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال: «نال أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فنزلت: { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ } الآية كلها» وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث رووا أن نزولها في غزوة المريسيع حين عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول ما أكثر بركتكم يا آل أبـي بكر ـ وفي رواية ـ يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجاً» وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر

{ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ } هو المكان المنخفض، وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء، وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ وهو في رأي ـ مصدر يغوط، وكان القياس غوطاً فقلبت الواو ياءاً وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها، ولعل الأولى ما قيل: إنه تخفيف غيط كهين وهين، والغيط الغائط، والمجيء منه كناية عن الحدث لأن العادة أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس. وفي ذكر { أَحَدٌ } فيه دون غيره إيماء إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه، وقيل: إنما ذكر وأسند المجيء إليه دون المخاطبين تفادياً عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحي منه أو يستهجن التصريح به والفعل عطف على { كُنتُمْ }، والجار الأول: متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله، والثاني: متعلق بالفعل أي وإن جاء أحد كائن منكم من الغائط

{ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء } يريد سبحانه أو جامعتم النساء إلا أنه / كنى بالملامسة عن الجماع لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحي منه، وإلى ذلك ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فيكون إشارة إلى الحدث الأكبر كما أن الأول إشارة إلى الحدث الأصغر. وعن ابن مسعود والنخعي والشعبـي أن المراد بالملامسة ما دون الجماع أي ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن اللمس ينقض الوضوء، وبه قال الزهري والأوزاعي وقال مالك والليث بن سعد وأحمد في إحدى الروايات عنه: إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا، وذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة، قيل: ما لم يحدث الانتشار، واختلف قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت، وفي لمس الأجنبية الصغيرة وأصح القولين: أنه لا ينقض كلمس نحو السن والظفر والشعر وينتقض عنده وضوء الملموسة كاللامس في الأظهر لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع، وإنما لم ينتقض وضوء الملموس فرجه على مذهبه لأنه لم يوجد منه مس لمظنة لذة أصلاً بخلافه هنا، ودليل القول بعدم نقض وضوء الملموس حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها وضعت يدها على قدميه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ووجه استدلاله بما في الآية على ما استدل عليه أن الحمل على الحقيقة هو الراجح لا سيما في قراءة حمزة والكسائي ـ أو لمستم ـ إذ لم يشتهر اللمس في الجماع كالملامسة، ورجح بعضهم الحمل على الجماع في القراءتين ترجيحاً للمجاز المشهور وعملاً بهما إذ لا منافاة وهو الأفق بمذهبنا، وقال بعض المحققين: إن المتجه أن الملامسة حقيقة في تماس البدنين بشيء من أجزائهما من غير تقييد باليد، وعلى هذا فالجماع من أفراد مسمى الحقيقة فيتناوله اللفظ حقيقة، وإنما يكون مجازاً لو اقتصر على إرادته باللفظ، وادعى الجلال المحلي أن الملامسة حقيقة في الجس باليد مجاز في الوطء، وأن الشافعيرحمه الله تعالى حملها على المعنيين جمعاً بين الحقيقة والمجاز؛ وظاهر عبارة «الأم» أن الشافعي لم يحمل الملامسة على الوطء بل على ما عداه من أنواع التقاء البشرتين، وأنه إنما ذكر الجس باليد تمثيلاً للملامسة بنوع من أنواعها لا تفسيراً لها بذكر كمال معناها الحقيقي كما بينه الكمال ابن أبـي شريف فليفهم

ثم إن نظم هذين الأمرين في سلك سببـي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببـي وجوبهما ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيداً له وتنبيهاً على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة بقسميها كأنه قيل: أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر. قيل: وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر أيضاً في صورة المرض والسفر لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعاً فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم ـ لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك، أو كنتم مرضى ـ الخ، وقيل: إن هذا القيد راجع للكل، وقيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجيء من الغائط والملامسة معتبر فيه أيضاً، واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده، وفي «الكشف» عن بعضهم أن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا جنباً ولا جائياً أحد منكم من الغائط، أو لامساً يعني ولا محدثين، ثم قيل: وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا، وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف والمعطوف عليه من غير نكتة، ثم قال بعد أن نقل ما اعترضه: ولعل الأوجه في تقرير الآية ـ والله تعالى أعلم ـ أن يجعل عدم الوجدان عبارة عن عدم القدرة على استعمال / الماء لفقد الماء، أو المانع ليصح أن يكون قيداً للكل، أو يحمل على ظاهره ويجعل قيداً للأخيرين لأن عموم الإعواز في حق المسافر غالباً، والمنع من القدرة على استعمال الماء القائم مقامه في حق المريض مغن عن التقييد لفظاً، وأن يبقى قوله سبحانه: { مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } على إطلاقه من غير تقييد بكونهم محدثين أو مجنبين لأن المقصود بيان سبب العدول عن الطهارة بالماء إلى التيمم، أما المشترك بين الطهارتين فلا يحتاج إلى ذكره قصداً وأن يجعل ذكر المحدثين من غير القبيلين بياناً لسبب العدول وهو فقد القدرة من غير سفر ولا مرض لا لأن الحدث سبب وإن أفاد ذلك ضمناً ولم يقل أو لم تجدوا دون ذكر السببين تنبيهاً على أن عدم الوجدان مرخص بعد انعقاد سبب الطهارة، وأفيد ضمناً أنهما معتبران أيضاً في المريض والمسافر إذ لا فرق بين المرض والسفر وبين سائر الأعذار في ذلك انتهى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر أظهر وما ذكره على تقدير الحمل عليه ليس بالبعيد عما قدمناه، نعم الآية من معضلات القرآن، ولعلها تحتاج بعد إلى نظر دقيق، والفاء في { فَلَمْ } عاطفة.

وأما الفاء في قوله سبحانه: { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً } فواقعة في جواب الشرط، والظاهر أن الضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة، ومثله في ذلك { تَجِدُواْ } فلا حاجة إلى تقدير فليتيمم جزاءاً لقوله سبحانه: { جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ } والتيمم لغة القصد قال الأعشى:

(تيممت قيساً) وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن

والصعيد وجه الأرض كما روي عن الخليل وثعلب، وقال الزجاج: لا أعلم خلافاً بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض وسمي بذلك لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض، أو لصعوده وارتفاعه فوق الأرض، والطيب الطاهر، وعن سفيان الحلال، وقيل: المنبت دون السبخة كما في قوله تعالى: { { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ } [الأعراف: 58] والحمل على الأول هو الأنسب بمقام الطهارة، والمعنى فتعمدوا واقصدوا شيئاً من وجه الأرض طاهراً، وهذا دليل واضح لجواز التيمم بالكحل والآجر والمرداسنج والياقوت والفيروزج والمرجان والزمرذ ونحو ذلك، وإن لم يكن عليه غبار وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ومحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي رواية أخرى عنه ـ وهو قول أبـي يوسف والشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهم ـ أنه لا يجوز التيمم إلا أن يعلق باليد شيء من التراب لتقييد المسح ـ بـ { مِنْهُ } ـ في المائدة [6]، وكلمة (من) للتبعيض وهو يقتضي التراب، والحنفية يحملونها على الإبتداء أو الخروج مخرج الأغلب، وقيل: الضمير للحدث المفهوم من السياق، و (من) للتعليل، وأغرب الإمام مالك فأجاز التيمم بالثلج، وقد شنع الشيعة عليه بذلك، وقد اعتذرنا عنه في كتابنا ـ «الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية» ـ ونصب { صَعِيداً } على أنه مفعول به، وقيل: إنه منصوب بنزع الخافض أي فتيمموا بصعيد

{ فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } أي وجوهكم وأيديكم على أن الباء صلة، والمراد استيعاب هذين العضوين بالمسح حتى إذا ترك شيئاً منهما لم يجز كما في الوضوء وهو ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن عن الإمام رضي الله تعالى عنه أن الأكثر يقوم مقام الكل لأن الاستيعاب في الممسوحات ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس، ووجه الظاهر أن التيمم قائم مقام الوضوء، ولهذا قالوا: يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتمَّ المسح، والاستيعاب في الوضوء شرط فكذا فيما قام مقامه، والأيدي جمع يد، وهي مشتركة بين معان من أطراف الأصابع إلى الرسغ وإلى المرفق وإلى الإبط، / وهل هي حقيقة في واحد منها مجاز في غيره، أو حقيقة فيها جميعاً؟ رجح بعضهم الثاني، ولذا ذهب إلى كل منها بعض السلف، فأخرج ابن جرير عن الزهري أن التيمم إلى الآباط، وأخرج عن مكحول أنه قال: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع، وأخرج الحاكم عن ابن عمر في كيفية تيممهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن، ومن حديث أبـي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ـ وهذا مذهبنا ـ ومذهب الشافعي والجمهور ـ ويشهد لهم القياس ـ على الوضوء الذي هو أصله؛ وإن كان الحدث والجنابة فيه كيفية سواء، وكذا جوازاً على الصحيح المروي عن المعظم. ومن الناس من قال: لا يتيمم الجنب والحائض والنفساء ـ وهو المروي عن عمر. وابنه وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ـ قيل: ومنشأ الخلاف فيما بينهم حمل الملامسة فيما سبق على الوقاع أو المس باليد. فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الأخير، وقالوا: القياس أن لا يكون التيمم طهوراً وإنما أباحه الله تعالى للمحدث فلا يباح للجنب لأنه ليس معقول المعنى حتى يصح القياس، وليست الجنابة في معنى الحدث لتلحق به بل هي فوقه. وأنت تعلم أن الآية كالصريح في جواز تيمم الجنب وإن لم تحمل الملامسة على الوقاع ـ كما يشير إليه تفسيرها السابق ـ على أن الأحاديث ناطقة بذلك، فقد أخرج البخاري عن عمران بن حصين "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك" وروي "أن قوماً جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال ولم نجد الماء شهراً أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال صلى الله عليه وسلم: عليكم بأرضكم" إلى غير ذلك، وهل يرفع التيمم الحدث أم لا؟ خلاف، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين عند من أمعن النظر

{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } تعليل لما يفهمه الكلام من الترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن مَنْ عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسراً لا معسراً، وجوز أن يكون كناية عن ذلك فإنه من روادف العفو وتوابع الغفران، وأدمج فيه أن الأصل الطهارة الكاملة وأن غيرها من الرخص من العفو والغفران، وقيل: العفو هنا بمعنى «التيسير» ـ كما في التيسير ـ واستدل على وروده بهذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: "عفوت لكم صدقة الخيل والرقيق" وذكر المغفرة للدلالة على أنه غفر ذنب المصلين سكارى، وما صدر عنهم في القراءة، وأنت تعلم أن حمل العفو على التيسير في الحديث غير متعين وكون ذكر المغفرة لما ذكر بعيد.