التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً
٩٧
-النساء

روح المعاني

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَٰـئِكَةُ } بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد، أو بيان لحال القاعدين عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين، و { تَوَفَّـٰهُمُ } يحتمل أن يكون ماضياً، وتركت علامة التأنيث للفصل ولأن الفاعل غير مؤنث حقيقي، ويحتمل أن يكون مضارعاً، وأصله ـ تتوفاهم ـ فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً، وهو لحكاية الحال الماضية، ويؤيد الأول قراءة من قرأ (توفتهم)، والثاني قراءة إبراهيم { تَوَفَّـٰهُمُ } بضم التاء على أنه مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم، فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، وإلى ذلك أشار ابن جني، والمراد من التوفي قبض الروح، وهو الظاهر الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وعن الحسن أن المراد به الحشر إلى النار، والمراد من الملائكة ملك الموت وأعوانه، وهم ـ كما في «البحر» ـ ستة: ثلاثة لأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين، وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط وهو من إطلاق الجمع مراداً به الواحد تفخيماً له وتعظيماً لشأنه، ولا يخفى أن إطلاق الجمع على الواحد لا يخلو عن بعد، والتحقيق أنه لا مانع من نسبة التوفي إلى الله تعالى وإلى ملك الموت وإلى أعوانه، والوجه في ذلك أن الله تعالى هو الآمر بل هو الفاعل الحقيقي، والأعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب، والقاطعون لتعلقها بذلك، والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها، وفي القرآن { { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنْفُسَ } [الزمر: 42] و { { يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكّلَ بِكُمْ } [السجدة: 11] و { { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [الأنعام: 61] ومثله { تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَٰـئِكَةُ }.

{ ظَالِمِيۤ } بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفار الموجبة للإخلال بأمور الدين، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعانتهم الكفرة، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس «أنه كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية». وأخرج ابن جرير عن الضحاك «إن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فأصيبوا فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الآية» وروي عن عكرمة أن الآية نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفاراً، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، و { ظَالِمِيۤ } منصوب على الحالية من ضمير المفعول في { تَوَفَّـٰهُمُ } وإضافته لفظية فلا تفيده تعريفاً، والأصل ظالمين أنفسهم.

{ قَالُواْ } أي الملائكة عليهم السلام للمتوفين توبيخاً لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره أو قالوا تقريعاً لهم وتوبيخاً بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم في عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فِيمَ كُنتُمْ } أي في أي شيء كنتم من أمور دينكم وحذفت ألف ـ ما ـ الاستفهامية المجرورة وفاءاً بالقاعدة، وتكتب متصلة تنزيلاً لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة، ولهذا تكتب ـ إلى وعلى وحتى ـ / في إلام وعلام وحتى م بالألف ما لم يوقف على ـ م ـ بالهاء، ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى: { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلأَرْضِ } وإلا فالظاهر في الجواب كنا في كذا، أو لم نكن في شيء، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل: فماذا قال أولئك المتوفون في الجواب؟ فقيل: قالوا في جوابهم: كنا مستضعفين في أرض مكة بين ظهراني المشركين الأقرباء. والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وإدخالهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة فلذا قعدوا وناموا، أو تعللوا عن الخروج معهم؛ والانتظام في ذلك الجمع المكسر بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم، وأنهم فعلوا ذلك كارهين، وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم كما يشير إليه قوله سبحانه: { قَالُواْ } أي الملائكة { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا } أي إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله تعالى لما يغيظ رسوله صلى الله عليه وسلم بأنكم مقهورون بين أولئك الأقوام غير مقبول لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم.

{ فَأُوْلَٰـئِكَ } الذي شرحت حالهم الفظيعة { مَأْوَاهُمْ } أي مسكنهم في الآخرة { جَهَنَّمُ } لتركهم الفريضة المحتومة، فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام، وعن السدي كان يقول: من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، والأصح الأول أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء الله تعالى على سيد أحبائه عليه الصلاة والسلام، وعدم التقييد بالتأييد ليس نصاً في العصيان بما دون الكفر، وإنما النص التقييد بعدمه، واسم الإشارة مبتدأ أول، و { مَأْوَاهُمُ } مبتدأ ثان، و { جَهَنَّمُ } خبر الثاني وهما خبر الأول، والرابط الضمير المجرور، والمجموع خبر إن، والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط، وقوله سبحانه: { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } في موضع الحال من الملائكة، وقد معه مقدرة في المشهور، وجعله حالاً ـ من الضمير المفعول بتقدير قد أولا، ولهم آخراً ـ بعيد، أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أي لهم، والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في (خبره)، ولا يصح جعل شيء من { قَالُواْ } الثاني، والثالث خبراً لأنه جواب، ومراجعة ـ فمن قال: لو جعل { قَالُواْ }: الثاني خبراً لم يحتج إلى تقدير عائد فقد ـ وهم، وقيل: الخبر محذوف تقديره هلكوا ونحوه، و { تهاجروا } منصوب في جواب الاستفهام وقوله تعالى: { وَسَآءتْ } من باب بئس أي بئست { مَصِيراً } والمخصوص بالذم مقدر أي مصيرهم أو جهنم.

واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وهو مذهب الإمام مالك، ونقل ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضاً، وفي كتاب «الناسخ والمنسوخ» أنها كانت فرضاً في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها، وأخرج الثعلبي من حديث الحسن مرسلاً "من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر.