التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٢١
-الجاثية

روح المعاني

{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيّئَـٰتِ } إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان حال الظالمين والمتقين. و { أَمْ } منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا ينبغي لظهور خلافه. والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي، وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم، وقال الراغب: الاجتراح اكتساب الإثم وأصله من الجراحة كما أن الاقتراف من قرف القرحة، والظاهر تفسيره هٰهنا بالاكتساب لمكان { ٱلسَّيّئَاتِ } والمراد بها على ما في «البحر» سيئات الكفر.

وقوله تعالى: { أَن نَّجْعَلَهُمْ } ساد مسد مفعولي الحسبان، والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله الأول، وقوله سبحانه: { كَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } مفعوله الثاني، وقوله عز وجل: { سَوَآءً } بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل، وقوله تعالى: { مَّحْيَـٰهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } فاعل { سَوَآءً }أجري مجرى مستوٍ كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم، وضمير الجمع للمجترحين، والمعنى على إنكار حسبان جعل محيا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين، ومصب الإنكار استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في المحيا والممات وأولئك تتضاد حالاهم فإنهم مرحومون حياة لا موتاً؛ وجوز أن يكون { سَوَآءً } حالاً من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها.

/ وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك، نعم يجوز أن يكون { كَٱلَّذِينَ } جاراً ومجروراً في موضع المفعول الثاني و { سَوَآءً } حالا من الضمير المستتر فيه، وقيل: يجوز أيضاً كونه حالاً من ضمير { نَّجْعَلَهُمْ } وكذا يجوز كونه المفعول الثاني، وكون الكاف أو الجار والمجرور حالاً من هذا الضمير، وما ذكر أولاً أظهر وأولى، وجوز كون ضمير الجمع في { مَّحْيَـٰهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { كَٱلَّذِينَ } لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول الثاني وضمير الأول، والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا ظاهراً في الرزق والصحة في الحياة، وجوز أن يكون المعنى على إنكار حسبان جعل الحياتين مستويتين لأن المؤمنين على الطاعة وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشرى والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان، وقيل: به على تقدير كون الضمير للمجترحين أيضاً. ولم يجوز المدقق الإبدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذ المثل هو المشبه و { سَوَآء } جار على المشبه والمشبه به.

وقرأ جمهور القراء { سَوَاءٌ مَّحْيَـٰهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } برفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للابتداء بها والضمير للمجترحين. والجملة قيل: بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو بدل بعض، وأياً ما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك، وأورد عليه شواهد، قال أبو حيان: لا يتعين فيها البدل. وقال محمد بن عبد الله الاشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه «البسيط» في النحو: ((لا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة بدلاً من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف والتأكيد اللفظي)). وظاهره أنه لا يجوز الإبدال هٰهنا. وفي «البحر» ((يظهر لي أنه لا يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم ولا صيرت زيداً غلامه منطلق لأن في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولاً ثانياً انتقال مما ذكرنا)) وفيه بحث لا يخفى. والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلاً من الكاف وهو إمام في العربية، لكن أفاد صاحب «الكشف» أنه أراد أنه بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذاك لفظاً قال: لأنه مفرد دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن يقدر رجالاً سواء محياهم ومماتهم مثلاً، والمعنى على البدلية كما سمعت في قراءة النصب، وجوز كون الجملة مفعولاً ثانياً و { كَٱلَّذِينَ } حال من ضمير { نَّجْعَلَهُمْ } ولا يخفى عليك ما عليه وما له. وإذا كان الضمير للمؤمنين فالجملة قيل: حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد، وتعقب بأن فيه اكتفاء الاسمية الحالية بالضمير وهو غير فصيح على ما قيل. وقيل: استئناف يبين المقتضي للإنكار على حسبان التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون، وجوز أن تكون بياناً لوجه الشبه المجمل، وإذا كان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكار والتساوي حينئذ بين حال المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة تعليلاً للإنكار في المعنى دالاً على عدم المماثلة لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة وأولئك متساوو المحيا والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك / موتاً، وأما الإبدال فقد علم حاله فتأمل. وقرأ الأعمش { سوآء } بالنصب { محياهم ومماتهم } به أيضاً، وخرج الأول على ما سمعت ونصب (محياهم ومماتهم) على الظرفية لأنهما اسما زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما { سَوَآءً } أو { نَّجْعَلَهُمْ }.

هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن «البحر» - وهو ظاهر ما روي عن الكلـبي من أن عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه وحمزة رضي الله تعالى عنه والمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقاً لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا فنزلت الآية: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيّئَـٰتِ } الخ وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدنى تدبر - يستنبط منها تباين حالي المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى إنها تسمى مبكاة العابدين لذلك، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» والطبراني وجماعة عن أبـي الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ } الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام. وأخرج ابن أبـي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلي فمر بهذه الآية { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ } الخ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت. وقال ابن عطية: ((إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح وعمل الصالحات ويكون الإيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها)). ورأيت كثيراً من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال: نحن يوم القيامة أفضل حالاً من كثير من العابدين وهذا منهم - والعياذ بالله تعالى - ضلال بعيد وغرور ما عليه مزيد.

{ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود. ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن { سَاءَ } بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزاً مفسراً لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئاً حكموا به ذلك.