التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٨
-الأحقاف

روح المعاني

{ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ } فهلا منعهم من الهلاك الذي وقعوا فيه { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } أي آلهتهم الذين اتخذوهم. { مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً ءالِهَةَ } والضمير الذي قدرناه عائداً هو المفعول الأول ـ لاتخذوا ـ و { ءالِهَةً } هو المفعول الثاني و { قُرْبَاناً } بمعنى متقرباً بها حال أي اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونها متقرباً بها إلى الله عز وجل حيث كانوا يقولون: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3] و { { هَـؤُلاء شُفَعَـٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] وفي الكلام تهكم بهم.

وأجاز الحوفي كون { قُرْبَاناً } مفعولاً من أجله، وأجاز هو أيضاً وابن عطية ومكي وأبو البقاء كونه المفعول الثاني ـ لاتخذوا ـ وجعل { ءالِهَةً } بدلاً منه، وقال في «الكشاف»: لا يصح ذلك لفساد المعنى، ونقل عنه في بيانه أنه لا يصح أن يقال: تقربوا بها من دون الله لأن الله تعالى لا يتقرب به، وأراد كما في «الكشف» / أنه إذا جعل مفعولاً ثانياً يكون المعنى فلولا نصرهم الذين اتخذوهم قرباناً بدل الله تعالى أو متجاوزين عن أخذه تعالى قرباناً إليهم وهو معنى فاسد. واعترض عليه بجعل { دُونِ } بمعنى قدام كما قيل به في قوله تعالى: { { وَٱدْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [البقرة: 23] وبأنه قد قيل: إن (قرباناً) مفعول له فهو غير مختص بالمتقرب به، وجاز أن يطلق على المتقرب إليه وحينئذ يلتئم الكلام.

وأجيب عن الأول بأنه غير قادح لأنه مع نزارة استعمال دون بمعنى قدام لا يصلح ظرف الاتخاذ لأنه ليس بين يدي الله تعالى وإنما التقرب بين يديه تعالى ولأجله سبحانه، واتخاذهم قرباناً ليس التقرب به لأن معناه تعظيمهم بالعبادة ليشفعوا بين يدي الله عز وجل ويقربوهم إليه سبحانه، فزمان الاتخاذ ليس زمان التقرب البتة، وحينئذ إن كان مستقراً حالاً لزم ما لزم في الأول. ولا يجوز أن يكون معمول { قُرْبَاناً } لأنه اسم جامد بمعنى ما يتقرب به فلا يصلح عاملاً كالقارورة وإن كان فيها معنى القرار، وفيه نظر.

وأجيب عن الثاني بأن الزمخشري بعد أن فسر القربان بما يتقرب به ذكر هذا الامتناع على أن قوله تعالى بعد { بَلْ ضَلُّواْ } الخ ينادي على فساد ذلك أرفع النداء. وقال بعضهم في امتناع كون { قُرْبَاناً } مفعولاً ثانياً و { ءالِهَةً } بدلاً منه: إن البدل وإن كان هو المقصود لكن لا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا صحة لقولهم: اتخذوهم من دون الله قرباناً أي ما يتقرب به لأن الله تعالى لا يتقرب به بل يتقرب إليه فلا يصح أنهم اتخذوهم قرباناً متجاوزين الله تعالى في ذلك، وجنح بعضهم إلى أنه يصح أن يقال: الله تعالى يتقرب به أي برضاه تعالى والتوسل به جل وعلا. وقال الطيبـي: إن الزمخشري لم يرد بفساد المعنى إلا خلاف المعنى المقصود إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهة على زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى كما نطقت به الآيات فتأمل. وقرىء { قُرْبَاناً } بضم الراء.

{ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } أي غابوا عنهم، وفيه تهكم بهم أيضاً كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقد امتنع نصرهم الذي كانوا يؤملونه امتناع نصر الغائب عن المنصور.

{ وَذَلِكَ } أي ضلال آلهتهم عنهم { إِفْكُهُمْ } أي أثر إفكهم أي صرفهم عن الحق واتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي وأثر افترائهم وكذبهم على الله تعالى أو أثر ما كانوا يفترونه على الله عز وجل، وقيل: { ذَلِكَ } إشارة إلى اتخاذ الأصنام آلهة أي ذلك الاتخاذ الذي أثره ضلال آلهتهم عنهم كذبهم وافتراؤهم أو والذي كانوا يفترونه وليس بذاك وإن لم يحوج إلى تقدير مضاف.

وقرأ ابن عباس في رواية { أفكهم } بفتح الهمزة والإفك والأفك مصدران كالحذر والحذر. وقرأ ابن الزبير والصباح بن العلاء الأنصاري وأبو عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان بن مرة ومجاهد وهي رواية عن ابن عباس أيضاً { أفكهم } بثلاث فتحات على أن أفك فعل ماض وحينئذ الإشارة إلى الاتخاذ أي ذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، { وَمَا كَانُواْ } قيل عطف على ذلك أو على الضمير المستتر وحسن للفصل أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي كذلك، والجملة حينئذ معطوفة على الجملة قبلها. وأبو عياض وعكرمة أيضاً كذلك إلا أنهما شددا الفاء للتكثير، وابن الزبير أيضاً وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه { آفكهم } بالمد فاحتمل أن يكون فاعل فالهمزة أصلية وأن يكون أفعل والهمزة للتعدية أي جعلهم يأفكون؛ وجوز أن تكون للوجدان كأحمدته وأن يكون أفعل بمعنى فعل، وحكى في «البحر» أنه قرىء { أفكهم } بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب وأبو الفضل الرازي { آفكهم } اسم فاعل من أفك أي وذلك الاتخاذ صارفهم عن الحق. وقرىء { وذلك إفك مما كانوا يفترون } والمعنى ذلك بعض / ما يفترون من الإفك أي بعض أكاذيبهم المفتريات فالإفك بمعنى الاختلاق فلا تغفل.