التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
١١٠
-المائدة

روح المعاني

{ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } بدل من { { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [المائدة: 109] وقد نصب بإضمار اذكر، وقيل: في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء، وصيغة الماضي لما مر آنفاً من الدلالة على تحقق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين [من المفاوضة] على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم، وإظهار الاسم الجليل [في مقام الإضمار] لما مر [من المبالغة في التهويل]. و عيسى مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادى وفتحه عند الجمهور، وهذا إذا أعرب (ابن) صفة لعيسى، أما إذا أعرب بدلاً أو بياناً فلا يجوز تقدير الفتحة إجماعاً كما بين في «كتب النحو».

و (على) في قوله تعالى: { ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وٰلِدَتِكَ } متعلقة بنعمتي جعل مصدراً أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالاً من نعمة إن جعل اسماً أي اذكر نعمتى كائنة عليك الخ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد «وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذاً بذكرها على رؤوس الأشهاد ويكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً».

{ إِذْ أَيَّدتُّكَ } ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت ذلك، وقيل: بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها. وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به على السعة. وقرىء «آيدتك» بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك، قال أبو حيان «ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل / وإن كان يؤيد فهو أفعل» ومعناه ومعنى أيد واحد، وقيل: معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما ـ كما قيل ـ متقاربان لأن النصر قوة.

{ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيـى به الدين ويكون سبباً للطهر عن أوضار الآثام أو تحيـى بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحاً مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك.

{ تُكَلّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ } أي طفلاً صغيراً، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلاً إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، والظرف في موضع الحال من ضمير { تُكَلّمَ }. وجوز أن يكون ظرفاً للفعل. والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة والسلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في { أَيَّدتُّكَ } كما قال أبو البقاء. والمهد معروف. وعن الحسن أن المراد به حجر أمه عليهما السلام، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أوان ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه.

وقوله تعالى: { وَكَهْلاً } للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد. وقال الإمام: إن الثاني أيضاً معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة والسلام حين رفع لم يكن كهلاً. وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بجالة أو من جاوز أربعاً وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وقيل: رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب، وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى. وقال بعض: الأولى أن يجعل { وَكَهْلاً } تشبيهاً بليغاً أي تكلمهم كائناً في المهد وكائناً كالكهل. وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف.

{ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ } عطف على { إِذْ أَيَّدتُّكَ } أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم { ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } أي جنسهما، وقيل: الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب { وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ } خصا بالذكر إظهاراً لشرفهما على الأول. { وَإِذْ تَخْلُقُ } أي تصور { مِنَ ٱلطّينِ } أي جنسه { كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } أي هيئة مثل هيئته { بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا } أي في تلك الهيئة المشبهة { فَتَكُونُ } بعد نفخك من غير تراخ { طَيْراً بِإِذْنِى } أي حيواناً يطير كسائر الطيور وقرأ نافع ويعقوب { طائراً } وهو إما اسم مفرد وإما اسم جمع كباقر وسامر. { وَتُبْرِىء ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِى } عطف على { تَخْلُقُ } وقوله سبحانه: { وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِى } عطف على { إِذْ تَخْلُقُ } أعيدت فيه «إذ» كما قيل لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميماً معجزة / باهرة حرية بتذكير وقتها صريحاً. وما في النظم الكريم أبلغ من تحيي الموتى فلذا عدل عنه إليه. وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة والسلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة آل عمران [49] وذكر «بإذني» هنا أربع مرات وثمة مرتين قالوا: لأنه هنا للامتنان وهناك للإخبار فناسب هذا التكرار هنا.

{ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرٰءيلَ عَنكَ } يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه. { إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ } أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف لكففت مع اعتبار قوله تعالى: { فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } وهو مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة والسلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة. فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، وجعل الإشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه.