التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٤
-المائدة

روح المعاني

{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى: { فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وأما ما هو من حقوق العباد ـ كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه ـ فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدّاً، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصاً، فانهم إن شاءوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا.

وقال ناصر الدين البيضاوي: إن القتل قصاصاً يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه «التحفة»، وأفرد له تنبيهاً فقال ـ بعد نقله ـ وهو عجيب، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في «حاشيته» / مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلاً إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصاً حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له ولا واجب مطلقاً، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه قصاصاً، وإن جاز أو وجب من حيث كونه حداً فتأمله انتهى.

وتعقبه ابن قاسم فقال: ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلاً في صفة القتل قصاصاً وهي وجوبه، وقوله: إذ لا يتصور الخ قلنا: لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه ـ وهو صحيح ـ على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: لأنا إذا نظرنا الخ كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصاً، وقوله: فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئاً من قلة التأمل انتهى.

وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بياناً لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بياناً لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصاً فلا يرد التشنيع فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس «أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبـي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبـي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله تعالى: { إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } الخ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها، وأيضاً إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه. وأيضاً ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضاً، وسبب النزول لا يصلح مخصصاً فإن العبرة ـ كما تقرر ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أخرج ابن أبـي شيبة وابن أبـي حاتم وغيرهما عن الشعبـي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له علياً فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائباً فهو آمن؟ قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أماناً، وروي عن أبـي موسى الأشعري ما هو بمعناه، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله في غير أولئك، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء، وأخرج ابن جرير / عن الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه صلى الله عليه وسلم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم، قال: وكان هذا القول ذكره لأبـي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء } أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد { { وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة: 14] وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم { يَٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ } بحسب الدواعي والمقتضيات { كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ } عن الناس في أنفسكم { مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } إذا لم تدع إليه داعية { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ } أبرزته العناية الإلۤهية من مكامن العماء { { وَكِتَـٰبٌ } [المائدة: 15] خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعاً لكل كمال، وهما إشارة إلى النبـي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه: { يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ } أي بواسطته { مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } أي من أراد ذلك { سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ } وهي الطرق الموصلة إليه عز وجل. وقد قال بعض العارفين: الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبـي صلى الله عليه وسلم { وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ٱلظُّلُمَـٰتِ } وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية { إِلَى ٱلنُّورِ } وهو نور الرضا والتسليم { { وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة: 16] وهو طريق الترقي في المقامات العلية، وقد يقال: الجملة الأولى: إشارة إلى توحيد الأفعال، والثانية: إلى توحيد الصفات، والثالثة: إلى توحيد الذات { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه ـ وهو الوجود المطلق ـ حتى عن قيد الإطلاق { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } فإن كل ذلك من التعينات والشؤون والله من ورائهم محيط { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور { { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } [المائدة: 17] ويظهر ما أراد من الشؤون { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } فادّعوا بنوة الإسرار والقرب من حضرة نور الأنوار، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين، فقال الواسطي: ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه: { قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم } والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } منهم فضلاً { { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } [المائدة: 18] منهم عدلاً { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَـٰقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } بالولاية ومعرفة الصفات، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه { { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } [المائدة: 20] أي عالمي زمانكم، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه السلام { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } وهي حضرة القلب / { الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } في القضاء السابق حسب الاستعداد { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِكُمْ } في الميل إلى مدينة البدن، والإقبال عليه بتحصيل لذاته { { فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِينَ } [المائدة: 21] لتفويتكم أنوار القلب وطيباته { قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ أَنِ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } وهي صفات النفس { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا } بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع { { فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دٰخِلُونَ } [المائدة: 22] حينئذٍ { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ } سوء عاقبة ملازمة الجسم { أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا } بالهداية إلى الصراط السوي ـ وهما العقل النظري والعقل العملي ـ { ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ } أي باب قرية القلب ـ وهو التوكل بتجلي الأفعال ـ كما أن باب قرية الروح هو الرضا { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَـٰلِبُونَ } بخروجكم عن أفعالكم وحولكم، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى: { { وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة: 23] بالحقيقة وهو الإيمان عن حضور، وأقل درجاته تجلي الأفعال { قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض { { إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ } [المائدة: 24] أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات { { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى ٱلأَرْضِ } [المائدة: 26] أي أرض الطبيعة، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءادَمَ } القلب اللذين هما هابيل العقل؛ وقابيل الوهم { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـٰناً } وذلك كما قال بعض العارفين: إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان، فقربا قرباناً { فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا } وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ } وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلۤهية ـ الذي به الحياة ـ عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية { { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27] الذين يتخذون الله تعالى وقاية، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة { لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأَِقْتُلَكَ } أي إني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها { { إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [المائدة: 28] أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولولا الأمل بطل العمل { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } وهي نار الحجاب والحرمان { { وَذَلِكَ جَزَاء ٱلظَّـٰلِمِينَ } [المائدة: 29] الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ } بمنعه عن أفعاله الخاصة / وحجبه عن نور الهداية { { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } [المائدة: 30] لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضده العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً } وهو غراب الحرص { يَبْحَثُ فِى ٱلأَرْضِ } أي أرض النفس { لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ } وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس { قَالَ يَٰوَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها { { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ } [المائدة: 31] عند ظهور الخسران وحصول الحرمان { { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة: 32] لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك { إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي أولياءهما { وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَرْضِ فَسَاداً } بتثبيط السالكين { أَن يُقَتَّلُواْ } بسيف الخذلان { أَوْ يُصَلَّبُواْ } بحبل الهجران على جذع الحرمان { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ } عن أذيال الوصال { وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـٰفٍ } عن الاختلاف والتردد إلى السالكين { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ } أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم { ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ } وهوان { { فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 33] لعظم جنايتهم، وقد جاء ـ أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب، ومن آذى ولياً فقد آذنته بالمحاربة ـ نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.