التفاسير

< >
عرض

وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ
١١٣
-الأنعام

روح المعاني

{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ } أي إلى زخرف القول، وقيل: الضمير للوحي أو للغرور أو للعداوة لأنها بمعنى التعادي، والواو للعطف وما بعدها عطف على { { غُرُوراً } [الأنعام: 112] بناء على أنه مفعول له فيكون علة أخرى للإيحاء وما في البين اعتراض، وإنما لم ينصب لفقد شرط النصب إذ الغرور فعل الموحي وصغو الأفئدة فعل الموحى إليه. وهو على الوجهين الأخيرين علة لفعل محذوف يدور عليه المقام أي وليكون ذلك جعلنا ما جعلنا. «وأصل الصغو ـ كما قال الراغب ـ الميل يقال: صغت الشمس والنجوم صغوا مالت للغروب وصغيتُ الإناء وأصغيته وأصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه، وحُكِي صغوت إليه أصغو وأصغى صغواً وصُغِيَّاً؛ وقيل: صغيت أصغى وأصغيت أُصغي». وفي «القاموس» «صغا يصغو ويصغي صغواً وصَغِىَ يصغي صغاً وصُغِياً مال». وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واوياً ويائياً فقيل: يصغو ويصغى؛ ويقال: في مصدره صغيا بالفتح والكسر. وزاد الفراء صغياً وصغوا بالياء والواو مشددتين، ويقال: إن أصغى مثله. والمراد هنا ولتميل إليه.

{ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } أي على الوجه الواجب. وخص عدم إيمانهم بها دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون ـ قال مولانا شيخ الإسلام ـ «إشعاراً / بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذه الشهوات آلاما وإنما ينظرون ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها» اهـ.

والآية حجة على المعتزلة في وجه. وأجاب الكعبـي بأن اللام للعاقبة وليست للتعليل بوجه وهو خلاف الظاهر. وقال غيره: إنها لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون. واعترض بأن النون حذفت ولام القسم باقية على فتحها كقوله:

لئن تك قد ضاقت على بيوتكم ليعلم ربـي أن بيتي واسع

بفتح لام ليعلم، نعم حُكِي عن بعض العرب كسر لام جواب القسم الداخلة على المضارع كقوله:

لتغني عن ذا إنائك أجمعا

وهو غير مجمع عليه أيضاً فإن أناساً أنكروا ورود ذلك، وجعلوا اللام في البيت للتعليل والجواب محذوف أي لتشربن لتغني عني. واستشهد الأخفش بالبيت على إجابة القسم بلام كي. وقال الرضي: لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة. وعن الجبائي أن اللام هنا لام الأمر، والمراد منه التهديد أو التخلية واستعمال الأمر في ذلك كثير.

واعترض بأنها لو كانت لام الأمر لحذف حرف العلة. وأجيب بأن حرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } و { إِنَّهُ مِنَ يَتَّقِى وَيِصْبِرْ } فليكن هذا كذلك. ويؤيد أنها لام الأمر أنه قرىء بحذف حرف العلة. وقرأ الحسن بتسكين اللام في هذا وفي الفعلين بعده. فدعوى إن ضعف كونها للأمر أظهر من ضعف الوجهين الأولين غير ظاهرة.

«واستدل أصحابنا بإسناد الصغو إلى الأفئدة على أن البنية ليست شرطاً للحياة فالحي عندهم هو الجزء الذي قامت به الحياة، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم، وقالت المعتزلة: الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء، والإسناد هنا مجازي».

{ وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم بعدما مالت إليه أفئدتهم { وَلِيَقْتَرِفُواْ } أي ليكتسبوا، قال الراغب: «أصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجرح وما يؤخذ منه قِرَف، واستعير الإقتراف للإكتساب حسناً كان أو سوءاً وفي الإساءة أكثر استعمالاً، ولهذا يقال: الاعتراف يزيل الاقتراف، ويقال: قرفت فلاناً بكذا إذا عبته به واتهمته؛ وقد حمل على ذلك ما هنا» وفيه بعد. ومثله ما نقل عن الزجاج أن المعنى فيه وليختلقوا وليكذبوا { مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } أي الذي هم مقترفوه من القبائح التي لا يليق ذكرها. وجوز أن تكون { مَا } موصوفة، والعائد محذوف أيضاً. وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى تقدير عائد.