التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
-الأنعام

روح المعاني

{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعدما بين بطريق التسلية حال غيرهم فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي وإذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام. { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ } قال شيخ الإسلام: «قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه السلام فيخبرنا أن محمداً عليه الصلاة والسلام صادق كما قالوا { { أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً } [الإسراء: 92]. وعن الحسن البصري مثله، وهذا كما ترى صريح في أن ما علق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم السلام هو إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيماناً حقيقياً كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في قوله سبحانه: { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه السلام بالوجه المذكور، ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جواباً عن اقتراحهم ورداً له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يأتينا جبريل بالذات عياناً كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك، ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بإرسال جبريل عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذاناً بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف، وفيه من التمحل ما لا يخفى».

وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلاً إلى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل، نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلو عن بعد، ولعل الأمر فيه سهل. ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وإن لم يستدع تلك الرسالة إلا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جواباً بدون حاجة إلى الصرف والحمل المذكورين، وفيه ما فيه. وقال مقاتل: نزلت في أبـي جهل حين قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبـي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً حتى يأتينا وحي / كما يأتيه. وقال الضحاك: سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه: { { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مّنْهُمْ أَن يُؤْتِى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [المدثر: 52] قال الشيخ: «ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسباً للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلى الله عليه وسلم في الجملة من غير شمول لكافة الناس، وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين. حتى يأتينا وحي كما يأتيه إلخ غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إتيان الوحي وعدمه، فالمعنى لن نؤمن برسالته أصلاً حتى نؤتى نحن من [الوحي و ] النبوة مثل ما أوتي رسل الله أو إيتاء مثل إيتاء رسل الله»، ولا يخفى أنه يجوز أن تكون حتى في كلام اللعين غاية للاتباع أيضاً على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لا قفو الأثر بالائتمار، على أن اللعين إنما طلب إتيان وحي كما يأتي النبـي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك نصاً في طلب الاستقلال المنافي للاتباع.

ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة والسلام بالكلية؛ ويمكن أن يدعي أيضاً أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما إلى الآخر ويلزم أحدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وإن كان مشاركاً له في أصل الرسالة فليفهم، وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر مالاً وولداً فنزلت هذه الآية. وتعقبه الشيخ قدس سره «أنه لا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكونه الآية النازلة وحياً صادقاً لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا: لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله: (لو كانت النبوة حقاً) الخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقاً لكنت أنا النبـي لا أنت وإذا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق، ومآله تعليق الايمان بحقية النبوة بكون نفسه نبياً». وأنت تعلم أن إطلاق النبوة وقولهم { رُسُلُ ٱللَّهِ } ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى، فالحق سقوط هذا القول عن درجة الاعتبار وإن روي مثله عن ان جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية.

و { مِثْلَ مَا أُوتِىَ } نصب على أنه نعت لمصدر محذوف و (ما) مصدرية أي حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله، وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام، و { حَيْثُ } مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره، والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في «كتاب الشعر» صفة لها، وإضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفاً. وقال الرضي: الأولى: أن حيث مضافة ولا مانع من إضافتها وهي اسم إلى الجملة، وبحث فيه، ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف إليه، ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ، وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بأن يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازياً باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من إخراج حيث عن الظرفية فإنه إما نادر أو ممتنع.

وجملة { ٱللَّهُ أَعْلَمُ } الخ استئناف بياني، والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من / كمل استعداده، ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الايجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وإن شاء أمسك وإن استعد المحل، وما في «المواقف» من أنه لا يشترط في الإرسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب، فقد جرت عادة الله تعالى أن يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة، وتمام البحث في موضعه. وقرأ أكثر السبعة { رسالاته } بالجمع، وعن بعضهم أنه يسن الوقف على { رُسُلُ ٱللَّهِ } وأنه يستجاب الدعاء بين الآيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه.

{ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ } استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعدما نعى عليهم حرمانهم مما أملوه، والسين للتأكيد، ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع، وقيل: إشعاراً بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة { صَغَارٌ } أي ذل عظيم هوان بعد كبرهم { عَندَ ٱللَّهِ } يوم القيامة. وقيل: من عند الله وعليه أكثر المفسرين كما قال الفراء، واعترضه بأنه لا يجوز في العربية أن تقول جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد، وقيل: المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة أو في الدنيا { بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته، وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه.