التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ
١٣١
-الأنعام

روح المعاني

{ ذٰلِكَ } إشارة إلى إتيان الرسل أو السؤال المفهوم من { { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } [الأنعام: 130] أو ما قص من أمرهم أعني شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب، وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أو خبره قوله سبحانه: { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ } بحذف اللام على أنَّ (أَنْ) مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها، وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ وفعلنا ونحو ذلك، وجوز أن / يكون { إِن لَّمْ } الخ بدلا من اسم الإشارة، وقوله تعالى: { بِظُلْمٍ } متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أي متلبسة بظلم أو حالا من { رَبَّكَ } أو من ضميره في { مُهْلِكَ }، والمراد مهلك أهل القرى إلا أنه تجوز في النسبة أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يأباه قوله تعالى: { وَأَهْلُهَا غَـٰفِلُونَ } لأن أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم الظاهر مقام ضميره.

واعترض شيخ الإسلام على جعل { بِظُلْمٍ } حالاً من { رَبَّكَ } أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد، وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بأن يكون حال التيقظ ومقارنة الانقياد، وإن كان المراد هٰهنا هو الإهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه، واختار قدس سره من احتمالات المشار إليه وأوجه إعراب اسم الإشارة الثالث من كل قال: والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لولا انتفاء كونه تعالى معذباً لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل إليهم كما في قوله سبحانه: { { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَـٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } [طه: 134] وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى: { { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15] على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده.

ولا يخفى أن لما اختاره وجهاً وجيهاً خلا أن قوله فيما بعد ـ إن جعل ذلك إشارة إلى ارسال الرسل عليهم السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوف كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع ـ وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب، والظاهر أن انتفاء الإهلاك قبل الإنذار لا يختص بالإنس بل الجن أيضاً لا يهلكون قبل إنذارهم وإن لم يشع إطلاق أهل القرى عليهم، وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا، والمعتزلة يقولون: يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة.