التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ
٥٧
-الأنعام

روح المعاني

{ قُلْ إِنّى عَلَىٰ بَيّنَةٍ } (تبيين) للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام له في وقت من الأوقات. والبينة ـ كما قال الراغب ـ الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال، وأياً ما كان فالمراد بها القرآن كما قال الجبائي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد إني على يقين. وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها، والتنوين للتفخيم أي بينة جليلة الشأن.

{ مّن رَّبّي } أي كائنة من جهته سبحانه. ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين. وجوز أن تكون { مِنْ } اتصالية، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة بمعرفة ربـي، وقيل: هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضاً أي كائن على بينة لأجل معرفة ربـي والأول أظهر. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى.

وقوله سبحانه: { وَكَذَّبْتُم بِهِ } ـ كما قال أبو البقاء ـ جملة إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء / بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم. والضمير للبينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد، وقال الزجاج: لأنها بمعنى البيان، وجوز أن يكون الضمير لربـي على معنى إني صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم.

وقوله تعالى: { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجىء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الإلزام بزعمهم { { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [يونس: 48] وقال الإمام: «إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك [العذاب] فقال لهم: { مَا عِندِى }» الخ وكأن الكلام مبين أيضاً لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجىء به أي ليس أمره مفوضاً إليّ.

{ إِنِ ٱلْحُكْمُ } أي ما الحكم في تأخير ذلك { إلاَ لِلَّهِ } وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه دخل ما فيه بوجه من الوجوه. واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما الحكم في ذلك تأخيراً أو تعجيلاً أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً؛ ورجح الأول بأن المقصود من قوله سبحانه: { إِنِ ٱلْحُكْمُ } الخ التأسف على وقوع خلاف المطلوب كما يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط.

{ يَقُصُّ } أي يتبع { ٱلْحَقّ } والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائناً ما كان أو يبينه بياناً شافياً من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص على ما اخترناه بإردافه بأمر عام كقوله تعالى: { { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [الملك: 1]. وقرأ الكسائي وغيره «يقضي» من القضاء وحذفت الباء في الخط تبعاً لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين، وأصله أن يتعدى بالباء لا بنفسه فنصب { ٱلْحَقّ } إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي: مسرودتان قضاهما داود. وفي الكلام على هذا استعارة تبعية.

واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الباء المحتاج إليها في الثانية وقد علمت فساده. واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه: { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَـٰصِلِينَ } فإن الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين. وأجاب أبو علي الفارسي بأن القصص هٰهنا بمعنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى: { { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [الطارق: 13] { { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَـٰتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ } [هود: 1] { { وَنُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } [التوبة: 11] على أنك تعلم بأدنى التفات إلى أن القص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد إلى معنى القضاء. وفي «إرشاد العقل السليم» «أن أصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي إلى صاحبه» وجملة { وَهُوَ خَيْرُ } الخ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق هٰهنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم.

واحتج بعض أهل «السنة بقوله سبحانه: { إِنِ ٱلْحُكْمُ } الخ لإفادته الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا إذا قضى الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله تعالى به وحكم، وكذلك في جميع الأفعال. وقالت المعتزلة: إن قوله سبحانه: { يَقْضِى ٱلْحَقّ } معناه أن كل ما يقضي به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق» ولا يخفى ما فيه.