التفاسير

< >
عرض

وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٦٩
-الأنعام

روح المعاني

{ وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ } قال أبو جعفر عليه الرحمة: لما نزلت { { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ } [الأنعام: 68] الخ قال المسلمون لئن كنا نقوم كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت فنزلت، أي وما يلزم الذين يتقون قبائح أعمال الخائضين وأحوالهم. { مِنْ حِسَابِهِم } أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من الجرائر { مِن شَيْءٍ } أي شيء ما على أن (من) زائدة للاستغراق و { شَىْء } في محل الرفع مبتدأ و(ما) تميمية أو اسم لها وهي حجازية و { مِنْ حِسَابِهِم } كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالاً. وليست { مِنْ } بمعنى الأجل خلافاً لمن تكلفه. و { عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ } متعلق بمحذوف مرفوع وقع خبراً للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر المقدم مطلقاً أو منصوب وقع خبراً لما على رأي من يجوز إعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفاً أو حرف جر.

/ { وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ } استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير. ومحل { ذِكْرِى } عند كثير من المحققين إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيراً أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى، وجوز أبو البقاء النصب والرفع أيضاً لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى بنون العظمة، وفي الثاني هذه ذكرى، وإلى ذلك يشير كلام البلخي، ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل { مِن شَيْءٍ } لأن (من حسابهم) يأباه إذ يصير المعنى: ولكن ذكرى من حسابهم وهو كما ترى.

واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف، والعلامة الثاني يقول: إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف البتة بحكم الاستعمال تقول: ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكباً أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون من القوم البتة ولم يجيء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب، قالوا: والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأن هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزءاً من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله تعالى: { { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس: 49] على ما في «شرح المفتاح»، وهذا إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك: جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش.

وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض المحققين مما يقتضيه الذوق، ومنهم من عمها كما قال الحلبي: إن أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف للتشريك في الظاهر فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب مقيداً بيوم الجمعة، وإذا قلت: وعمراً يوم السبت لم يشاركه في قيده والآية من القبيل الأول فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي في المنع وبحث فيه السفاقنسي وغيره فتدبر. ومن منع العطف على محل { مِن شَيْءٍ } لما تقدم منع العطف على { شَيْءٍ } لذلك أيضاً ولأن (من) لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الإثبات في غير الظروف أو مطلقاً عند الجمهور.

{ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. وجوز أن يكون الضمير للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو ليزدادوا تقوى بذلك. وهذه الآية ـ كما أخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبو الشيخ عن السدي وابن جبير ـ منسوخة بقوله تعالى النازل في المدينة { { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَـٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَـٰتِ ٱللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا } [النساء: 140] الخ وإليه ذهب البلخي والجبائي وفي «الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ» أنه لا نسخ / عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه: { وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ } الخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم.