التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ
٨
-الأنعام

روح المعاني

{ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } الظاهر أنه استئناف لبيان قدحهم بنبوته عليه الصلاة والسلام بما هو أصرح من الأول، وقيل: إنه معطوف على جواب (لو) ويغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، واعترض بأن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هي من أباطيلهم المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل، وأجيب بأنه لا بعد في تقدير صدور هذه المقالة على تقدير ذلك التنزيل لأنه مما يوقع الكافر المعاند في حيص بيص فلا يدري بماذا يقابله وأي شيء يتشبث به. وكلمة { لَوْلاَ } هنا للتحضيض، والمقصود به التوبيخ على عدم الإتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم.

أخرج ابن المنذر وابن أبـي حاتم عن محمد بن إسحٰق قال: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحرث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبـي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى / معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ } الخ أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يحدث الناس عنه ويخبرهم أنه رسول من ربه سبحانه إليهم، ولعل هذا نظير ما حكى الله تعالى عنهم بقوله جل شأنه: { { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [الفرقان: 7]. ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين. إنزال الملك على صورته وجعله معه صلى الله عليه وسلم يحدث الناس عنه وينذرهم. أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يوجد لاشتماله على المتباينين فإن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله محدثاً ونذيراً وجعله محدثاً ونذيراً يستدعي عدم إنزاله على صورته.

وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى: { وَلَوْ أَنزَلْنَا } عليه { مَلَكًا } على صورته الحقيقية فشاهدوه بأعينهم: { لَقُضِىَ ٱلأَمْرُ } أي لأتم أمر إهلاكهم بسبب مشاهدتهم له لمزيد هول المنظر مع ما هم فيه من ضعف القوى وعدم اللياقة. وقد قيل: إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم إنما رأوا الملك في صورة البشر ولم يره أحد منهم على صورته غير النبـي صلى الله عليه وسلم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بجياد ومرة في السماء، ولا يخفى أن هذا محتاج إلى نقل عن الأحاديث الصحيحة والذي صح من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبـي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام مرتين كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أن أحداً من إخوانه الأنبياء غيره عليه الصلاة والسلام لم يره كذلك، ولم يرد هذا كما قال ابن حجر وناهيك به حافظاً في شيء من «كتب الآثار»، وإما رؤية النبـي صلى الله عليه وسلم وكذا رؤية غيره من الأنبياء غير جبريل عليه السلام على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب، وظاهر الأخبار وقوعها أيضاً لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأما وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها على شيء لا نفياً ولا إثباتاً، وعدم وقوع رؤية جبريل عليه السلام لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره إذ ليست صور الملائكة كلهم كصورته عليه الصلاة والسلام في العظم، وخبر الخصمين والأضياف لإبراهيم ولوط وداود عليهم السلام ليس فيه دلالة على أكثر من رؤية هؤلاء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين وهي لا تستلزم أنهم لا يرونهم إلا كذلك وإلا لاستلزمت رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه مثلاً عدم رؤيته عليه الصلاة والسلام إياهم إلا بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار، وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل مسنداً إلى نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة، وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء.

وكلمة { ثُمَّ } في قوله تعالى { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } أي لا يمهلون بعد إنزاله ومشاهدتهم له طرفة عين فضلاً عن أن يحظوا منه بكلمة أو يزيلوا به بزعمهم شبهة للتنبيه على بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار فإن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة، وقيل: إنها للإشارة إلى أن لهم مهلة قدر أن يتأملوا. واعترض بأن قوله سبحانه: { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } عطف على قوله عز وجل: { لَقُضِىَ } ولا يمهل للتأمل بعد قضاء الأمر. وقيل في سبب إهلاكهم على تقدير إنزال الملك حسبما اقترحوه: إنهم إذا عاينوه قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته الأصلية وهي آية لا شيء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم فإن سنة الله تعالى قد جرت بذلك فيمن قبلهم ممن كفر بعد نزول ما اقترح وروي هذا عن قتادة، وقيل: إنه يزول / الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزوله لأن هذه آية ملجئة قال تعالى: { { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [غافر: 85] فيجب إهلاكهم لئلا يبقى وجودهم عارياً عن الحكمة إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف وهو لا يبقى مع الإلجاء، وفيه أنه مخالف لقواعد أهل السنة ولا يتسنى إلا على قواعد المعتزلة وهي أوهن من بيت العنكبوت ومع هذا هو غير صاف عن الإشكال كما لا يخفى على المتتبع، وذكر بعض الفضلاء أن هذا الوجه ينافي ما قبله لدلالة ما قبل على بقاء الاختيار وأنهم لا يؤمنون إذا عاينوا الملك قد نزل ودلالة هذا على سلب الاختيار وزواله وان الإيمان إيمان يأس.

وقال ابن المنير: «لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك فإنه ربما يفهم من ذلك أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح وليس الأمر كذلك. فالوجه والله تعالى أعلم أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزاً لا المعجز الخاص فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة»، ولعل الوجه الذي عولنا عليه هو الأولى، وقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والاعتراض عليه بأن { لاَ يُنظَرُونَ } يدل على إهلاكهم لا على هلاكهم برؤية الملك يندفع بما أشرنا إليه كما لا يخفى، وليس بتكلف يترك له كلام ترجمان القرآن.