التفاسير

< >
عرض

وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٨٣
-الأنعام

روح المعاني

{ وَتِلْكَ } إشارة إلى ما احتج به إبراهيم عليه السلام من قوله سبحانه: { { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } [الأنعام: 76] الخ، وقيل: من قوله سبحانه: { { أَتُحَاجُّونِّى } [الأنعام: 80] إلى { { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [الأنعام: 82] وتركيب حجة اصطلاحية منه يحتاج إلى تأمل وما في اسم الإشارة من معنى البعد لتفخيم شأن المشار إليه، وهو مبتدأ وقوله عز شأنه: { حُجَّتُنَا } خبره، وفي إضافته إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى. وقوله تعالى: { ءَاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ } أي أرشدناه إليها أو علمناه إياها في موضع الحال من حجة والعامل فيه معنى الإشارة أو في محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر و { حُجَّتُنَا } بدل أو بيان للمبتدأ، وجوز أن تكون جملة (ءاتَيْنَا) الخ معترضة أو تفسيرية ولا يخفى بعده، و { إِبْرَاهِيمَ } مفعول أول لآتينا قدم على الثاني لكونه ضميراً. وقوله سبحانه: { عَلَىٰ قَوْمِهِ } متعلق بحجتنا إن جعل خبراً لتلك أو بمحذوف إن جعل بدلاً لئلا يلزم الفصل بين أجزاء البدل بأجنبـي أي آتيناها إبراهيم حجة على قومه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه بحجتنا أصلاً للمصدرية والفصل، ولعل المجوز لا يرى المصدرية مانعة عن تعلق الظرف ويجعل الفصل مغتفراً، وقيل: يصح / تعلقه بآياتنا لتضمنه معنى الغلبة.

وقوله عز شأنه: { نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ } أي رتباً عظيمة عالية من العلم والحكمة مستأنف لا محل له من الإعراب مقرر لما قبله، وجوز أبو البقاء أن يكون في محل نصب على أنه حال من فاعل (ءاتَيْنَا) أي حال كوننا رافعين، ونصب { دَرَجَـٰتٌ } إما على المصدرية بتأويل رفعات أو على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز ومفعول { نَرْفَعُ } قوله تعالى: { مَّن نَّشَاء } وتأخيره على الأوجه الثلاثة الأخيرة لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ومفعول المشيئة محذوف أي من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة. وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة فيما بين المصطفين الأخيار غير مختصة بإبراهيم عليه السلام. وقرىء { يَرْفَعُ } بالياء على طريقة الالتفات وكذا { نَشَاء } وقرأ غير واحد من السبعة { دَرَجَـٰتٍ مَّن } بالإضافة على أنه مفعول { نَرْفَعُ } ورفع درجات الإنسان رفع له، وجوز بعضهم جعله مفعولاً أيضاً على قراءة التنوين وجعل من بتقدير لمن وهو بعيد.

وقوله سبحانه: { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } أي في كل ما يفعل من رفع وخفض { عَلِيمٌ } أي بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة، وإن شئت عممت ويدخل حينئذ ما ذكر دخولاً أولياً تعليل لما قبله. وفي وضع الرب مضافاً إلى ضميره عليه الصلاة والسلام موضع نون العظمة بطريق الالتفات في تضاعيف بيان حال إبراهيم عليه السلام ما لا يخفى من إظهار مزيد اللطف والعناية به صلى الله عليه وسلم.

هذا وقد ذكر الإمام في هذه الآيات الإبراهيمية عدة أحكام، الأول: «أن قوله سبحانه: { { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } [الأنعام: 76] يدل على أنه عز وجل ليس بجسم إذ لو كان جسماً لكان غائباً عنا [أبداً] فيكون آفلاً [أبداً]» والأفول ينافي الربوبية، ولا يخفى أن عد تلك الغيبة المفروضة أفولاً لا يخلو عن شيء لأن الأفول احتجاب مع انتقال وتلك الغيبة المفروضة لم تكن كذلك بل هي مجرد احتجاب فيما يظهر نعم إنه ينافي الربوبية أيضاً لكن الكلام في كونه أفولاً ليتم الاحتجاج بالآية، لا يقال قد جاء في حديث الإسراء ذكر الحجاب فكيف يصح القول بأن الاحتجاب مناف للربوبية لأنا نقول: الحجاب الوارد ـ كما قال القاضي عياض ـ إنما هو في حق العباد لا في حقه تعالى فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس، ونص غير واحد أن ذكر الحجاب له تعالى تمثيل لمنعه سبحانه الخلق عن رؤيته. وقال السيد النقيب في «الدرر والغرر» العرب تستعمل الحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه بيني وبينك حجاب ويقولون لما يستصعب طريقه: بيني وبينه كذا حجب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك. والظاهر على هذا أن فيما ذكر مجاز في المفرد فتدبر. الثاني: «أن هذه الآية تدل على أنه يمتنع أن يكون تعالى بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول». وأنت تعلم أن الواصفين ربهم عز شأنه بصفة النزول حيث سمعوا حديثه الصحيح عن رسولهم صلى الله عليه وسلم لا يقولون: إنه حركة وانتقال كما هو كذلك في الأجسام بل يفوضون تعيين المراد منه إلى الله تعالى بعد تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وحينئذ لا يرد عليه أنه في معنى الأفول الممتنع على الرب جل جلاله./ الثالث: «أنها تدل على أنه جل شأنه ليس محلاً للصفات المحدثة كما تقول الكرامية وإلا لكان متغيراً وحينئذ يحصل معنى الأفول» (وهو ظاهر). الرابع: «إن ما ذكر يدل على أن الدين يجب أن يكون مبنياً على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن للاستدلال فائدة البتة». الخامس: «أنه يدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم عليه السلام إلى الاستدلال». السادس: «أنه يدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل عليه السلام إلى هذه الطريقة»، ولا يخفى عليك ما في هذين الأخيرين. السابع: «أن قوله سبحانه: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا } الخ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله تعالى وإظهارها في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى؛ ويتأكد ذلك بقوله سبحانه: { نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ }» الخ. الثامن: «أن قوله سبحانه { نَرْفَعُ } الخ. يدل على فساد طعن الحشوية في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل»، وفيها أحكام أخر لا تخفى على من يتدبر.

ومن باب الإشارة فيها: { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لأَبِيهِ ءازَرَ } حين رآه محتجباً بظواهر عالم الملك عن حقائق الملكوت وربوبيته تعالى للأشياء معتقداً تأثير الأكوان والأجرام ذاهلاً عن الملكوت جل شأنه { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً } أي أشباحاً خالية بذواتها عن الحياة { ءالِهَةً } فتعتقد تأثيرها { { إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 74] ظاهر عند من كشف عن عينه الغين { وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي نوقفه على القوى الروحانية التي ندبر بها أمر العالم العلوي والسفلي أو نوقفه على حقيقتها { { وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75] أي أهل الإيقان العالمين أن لا تأثير إلا لله تعالى يدبر الأمر بأسمائه سبحانه { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } أي أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية، وذلك عند الصوفية في صباه وأول شبابه { رَأَى كَوْكَباً } وهو كوكب النفس المسماة روحاً حيوانية الظاهر في ملكوت الهيكل الإنساني ـ فقال ـ حين رأى فيضه وحياته وتربيته من ذلك بلسان الحال { هَـٰذَا رَبّى } وكان الله تعالى يريه في ذلك الحين باسمه المحي { فَلَمَّا أَفَلَ } بطلوع نور القلب { { قَالَ لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } [الأنعام: 76] { فَلَمَّا رَأَى ٱلْقَمَرَ } أي قمر القلب { بَازِغاً } من أفق النفس ووجد فيضه بمكاشفات الحقائق والمعارف وتربيته منه { قَالَ هَـٰذَا رَبّى } وكان الله تعالى يريه إذ ذاك باسمه العالم والحكيم { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } إلى نور وجهه { { لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } [الأنعام: 77] المحتجبين بالبواطن عنه سبحانه: { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ } أي شمس الروح { بَازِغَةً } متجلية عليه { قَالَ } إذ وجد فيضه وشهوده وتربيته منها { هَـٰذَا رَبّى } وكان سبحانه يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم { هَـٰذَا أَكْبَرُ } من الأولين { فَلَمَّا أَفَلَتْ } بتجلي أنوار الحق وتشعشع سبحات الوجه { { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 78] إذ لا وجود لغيره سبحانه { إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ } أي أسلمت ذاتي ووجودي { لِلَّذِى فَطَرَ } أوجد { ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي سمٰوات الأرواح وأرض النفس { حَنِيفاً } مائلاً عن كل ما سواه حتى عن وجودي وميلي بالفناء فيه جل جلاله { { وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 79] في شيء { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } في ترك السوى { { قَالَ أَتُحَاجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } [الأنعام: 80] إلى وجوده الحق وتوحيده { ٱلَّذِينَ آمَنُوا } الايمان الحقيقي { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ } من ظهور نفس أو قلب أو وجود بقية { أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ } الحقيقي { { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [الأنعام: 82] حقيقة إلى الحق. وقال النيسابوري: قد يدور في الخلد أن إبراهيم عليه السلام جن عليه ليل الشبهة وظلمتها فنظر أولاً: في عالم / الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغيير فلم يرها تصلح للإلٰهية فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجرد فصادفها ءافلة في أفق الإمكان فلم يبق إلا الواجب، وقيل: غير ذلك، وما ذكره مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه السلام وهو الذي ذهب إليه البعض من المفسرين ورووا في ذلك خبراً طويلاً وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة، والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.