التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ
٩
-الأنعام

روح المعاني

وقد أشير إلى الثاني بقوله سبحانه: { وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً } على أن الضمير الأول للنذير المحدث للناس عنه عليه الصلاة والسلام المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول أي ولو جعلنا النذير الذي اقترحتم إنزاله ملكاً لمثلنا ذلك الملك رجلاً لعدم استطاعتكم معاينة الملك على هيكله الأصلي، وفي إيثار { رَجُلاً } على بشراً إيذان على ما قيل بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل، وفيه إشعار كما قال عصام الدين وغيره بأن الرسول لا يكون امرأة وهو متفق عليه وإنما الاختلاف في نبوتها.

والعدول عن ولو أنزلناه ملكاً إلى ما في النظم الجليل يعلم سره مما تقدم في بيان المراد، وقيل: العدول لرعاية المشاكلة لما بعد. ووجه شيخ الإسلام عدم جعل الضمير الأول للملك المذكور قبل «بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال: ولو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً بأنه لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثاني إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك، وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبراً لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ والخبر، ولا ريب في أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين طرفي الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت «لو» امتناعية أريد بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني كذلك إبرازاً لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم» ولا يخلو عن حسن. وجوز غير واحد كون قوله تعالى: { وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ } الخ جواب اقتراح ثان، وذلك أن للكفرة اقتراحين، أحدهما: أن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ملك في صورته الأصلية بحيث يعاينه القوم؛ والآخر أن ينزل إلى القوم ويرسل إليهم مكان الرسول البشر ملك فانهم كما كانوا يقولون: لولا أنزل على / محمد صلى الله عليه وسلم ملك فيكون معه نذيراً كانوا يقولون: { { مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [المؤمنون: 24] فأجيبوا عن قولهم الأول بقوله سبحانه وتعالى: { { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } [الأنعام: 8] الخ وعن قولهم الأخير بما ذكر فضمير { جَعَلْنَـٰهُ } للرسول المنزل إلى القوم، ولا يخفى أن جعله جواباً عن اقتراح آخر غير ظاهر من النظم الكريم ولا داعي إليه أصلاً.

وبعضهم جعله جواباً آخر وجعل الضمير للمطلوب. واعترض بأن المطلوب أيضاً ملك ولا معنى لقولنا لو جعلنا الملك ملكاً إلا أن يقال: المراد لو جعلنا المطلوب ملكيته ملكاً، وتعقب بأن المطلوب هو النازل المقارن للرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا غبار في الكلام خلا أن لزوم جعل الملك النازل رجلاً لجعله ملكاً كما هو مفهوم الآية الثانية ينافي لزوم هلاكهم له كما هو مفهوم الآية الأولى لتوقف الثاني على عدم الأول لأن مبناه على نزوله في صورته لا في صورة رجل فحينئذ يجب أن تكون الآية جواباً عن اقتراح آخر لا جواباً آخر عن الاقتراح الأول حتى لا يلزم المنافاة.

وأجيب بأنه على تقدير كونه جواباً آخر يكون جواباً على طريق التنزل، والمعنى ولو أنزلناه كما اقترحوا لهلكوا ولو فرضنا عدم هلاكهم فلا بد من تمثله بشراً لأنهم لا يطيقون رؤيته على صورته الحقيقية فيكون الارسال لغواً لا فائدة فيه، وأنت تعلم أن ما عولنا عليه وهو المروي عن حبر الأمة سالم عن مثل هذه الاعتراضات. نعم ذكر بعض الفضلاء إشكالاً وهو أن المقرر عند أهل الميزان أن صدق العكس لازم لصدق الأصل فعلى هذا يلزم من كذب اللازم كذب الملزوم فهٰهنا عكس القضية الصادقة وهي { لَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً } غير صادق إذ هو لو جعلناه رجلاً لجعلناه ملكاً ولا خفاء في عدم تحققه فإن الله تعالى قد جعله رجلاً ولم يجعله ملكاً والجواب - بأن ما ذكره أهل الميزان اصطلاح طار فلا يجب موافقة قاعدتهم لقاعدة أهل اللسان - غير مرضي فإنه قد تقرر أن تلك القاعدة غير مخالفة لقاعدة اللغة وأنها مما لا خلاف فيه.

وأجيب عن ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي أن للو الشرطية استعمالين لغوياً وهي فيه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما في لو جئتني أكرمتك ومفهوم القضية عليه الإخبار بأن شيئاً لم يتحقق بسبب عدم تحقق شيء آخر، وعرفياً تعارفه الميزانيون فيما بينهم وذلك أنهم جعلوها من أدوات الاتصال لزومياً واتفاقياً وصدق القضية التي هي فيها بمطابقة الحكم باللزوم للواقع وكذبها بعدمها ويحكمون بكذبها وإن تحقق طرفاها إذا لم يكن بينهما لزوم وقد استعملها اللغويون أيضاً في هذا المعنى إما بالاشتراك أو بالمجاز كما يقال: لو كان زيد في البلد لرآه أحد. وفي بعض الآثار «لو كان الخضر حيا لزارني»، ومن البين أن المقصود الاستدلال بالعدم على العدم لا الدلالة على أن انتفاء الثاني سبب انتفاء الأول، وجعلوا من هذا الاستعمال { { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22].

وقد اشتبه هذان الاستعمالان على ابن الحاجب حتى قال ما قال بأن قول المستشكل: إن عكس القضية الصادقة الخ إن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال الأول فلا نسلم أن عكسه ما ذكر فإن عكس لو جئتني أكرمتك ليس لو أكرمتك لجئتني وإنما يكون كذلك لو كان الحكم في هذا الاستعمال بين الشرط والجزاء بالاتصال وليس كذلك بل القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كما صرح به السكاكي على أن بعض أئمة التفسير قالوا: المراد من الآية ولو جعلناه ملكاً لجعلناه على صورة رجل وأن المقصود / بيان انتقاض غرضهم من قولهم: { { لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [الأنعام:8] يعني أن نزول الملك لا يجديهم لأنهم وهم هم لا يقدرون على مشاهدة الملك على صورته التي هو عليها إلا أن يجعله متمثلاً على صورة البشر في مرتبة من مراتب التنزل حتى تحصل لهم معه مناسبة فيروه فتكون الآية على هذا بمراحل عن أن يبحث فيها عن أن عكسها ماذا أو كيف حالها في الصدق والكذب فإنها لم تسق لبيان لزوم الجعل الثاني للجعل الأول حتى يستدل بالعدم على العدم أو بالوجود على الوجود فنسبة هذا البحث إلى الآية كنسبة السمك إلى السماك وإن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال العرفي المنطقي فمسلم أنه لا بد من صدق عكسها على تقدير صدق أصلها لكن لا نسلم كذب العكس هنا على ذلك التقدير فإنه إذا فرض لزوم الجعل رجلاً للجعل الأول كلياً على جميع التقادير يصدق لزوم الجعل ملكاً للجعل رجلاً على بعض الأوضاع والتقادير وهو اللازم المقرر في قواعدهم على أن قوله إن الله تعالى قد جعله رجلاً ولم يجعله ملكاً لا يليق أن يصدر مثله من مثله لأنه استدلال بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم وهو كما لو قال قائل: إذا قلنا إن كان زيد صاهلاً كان حيواناً لا يصدق عكسه، وهو قد يكون إذا كان زيد حيواناً كان صاهلاً لأنه ليس بصاهل في الواقع، ومنشأ هذا هو ظن أن عدم تحقق أحد الطرفين، أو كليهما ينافي اللزوم. وأنت خبير بأن صدق اللزوم لا يتوقف على تحقق الطرفين ولا تحقق المقدم اهـ.

وبحث فيه المولى العلائي أما أولاً: فبأن كون القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كلام ذكره بعض أهل العربية ورده السيد السند وحقق اتفاق الفريقين على كون الجملة هي المجموع وحينئذ كيف يصح بناء الجواب على ذلك. وأما ثانياً: فبأن المستشكل لم يستدل بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم كما لا يخفى على الناظر في عبارته، فالصواب أن يقال: أكثر استعمال لو عند أهل العربية لمعنيين. الأول ما ذكره المجيب من انتفاء الثاني لانتفاء الأول. والثاني الدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة في قصد المتكلم. وذلك إذا كان الشرط يستبعد استلزامه لذلك الجزاء ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزام ذلك الجزاء فيلزم استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه كما في «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله تعالى لم يعصه». وقد صرح المحققون أن الآية إما من قبيل الأول أي لو جعلناه قرينا لك ملكاً يعاينونه أو الرسول المرسل إليهم ملكاً لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل وما جعلنا ذلك الملك في صورة رجل لأنا لم نجعل القرين أو الرسول المرسل إليهم ملكاً. وإما من قبيل الثاني أي ولو جعلنا الرسول ملكاً لكان في صورة رجل فكيف إذا كان إنساناً وكل منهما لا يقبل العكس المذكور ولا ثالث فلا إشكال فتدبر. فالبحث بعد محتاج إلى بسط كلام ولو بسطناه لأمل الناظرين.

{ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } جعله بعضهم جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلاً للبسنا الخ، وكأن الداعي إليه إعادة لام الجواب فإنه يقتضي استقلاله وأنه لا ملازمة بين إرسال الملك، واللبس عليهم فإنه ليس سبباً له بل لعكسه، ويجوز أن يكون عطفاً على جواب لو المذكور ولا ضير في عطف لازم الجواب عليه، ونكتة إعادة اللام أن لازم الشيء بمنزلته فكأنه جلماب، واللبس في الأصل الستر بالثوب ويطلق على منع النفس من إدراك الشيء بما هو كالستر له يقال لبست الأمر على القوم ألبسه إذا شبهت عليهم / وجعلته مشكلاً. قال ابن السكيت: يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته أي لخلطنا عليهم بتمثيله رجلاً ما يخلطون على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له: إنما أنت بشر ولست بملك، ولو استدل على ملكيته بالمعجز كالقرآن ونحوه كذبوه كما كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وإسناد اللبس إليه تعالى لأنه بخلقه سبحانه وتعالى أو للزومه لجعله رجلاً. ويحتمل أن يكون المعنى للبسنا عليهم حينئذ ما يلبسون على أنفسهم الساعة في تكذيبهم النبـي صلى الله عليه وسلم ونسبة آياته البينات إلى السحر. و { مَا } على ما اختاره في «الكشف» على الأول موصولة وعلى الثاني يجوز أن تكون مصدرية وهو الأظهر لاستمرار حذف المثل في نحو ضربت ضرب الأمير، وأن تكون موصولة أي مثل الذي يلبسونه. ومتعلق { يَلْبِسُونَ } على الوجهين على أنفسهم. ويفهم من كلام الزجاج أنه على ضعفائهم حيث قال: كانوا يلبسون على ضعفائهم في أمر النبـي صلى الله عليه وسلم فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم فأخبر سبحانه وتعالى أنه لو جعلنا المرسل إليهم ملكاً لأريناهم إياه في صورة الرجل وحينئذ يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفاءهم منه.

وقرأ ابن محيصن { ولبسنا } بلام واحدة والزهري { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } بالتشديد، هذا وقد ذكر الإمام الرازي في بيان وجه الحكمة في جعل الملك على تقدير إنزاله في صورة البشر أموراً. «الأول: أن الجنس إلى الجنس أميل. الثاني: أن البشر لا يطيق رؤية الملك. الثالث: أن طاعات الملك قوية فيستحقرون طاعات البشر وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي. الرابع: أن النبوة فضل من الله تعالى فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكاً أو بشراً». ولا يخفى أنه يرد على الوجه الثالث أنه إنما يتم إذا تبدلت حقيقة الملك المقدر نزوله بحقيقة البشر وهو مع كونه من انقلاب الحقائق خلاف ما يفهم من «كتب أئمة التفسير» من أن التبدل صوري لا حقيقي، وأن الوجه الرابع لا يظهر وجه كونه حكمة لتصوير الملك بصورة البشر. وقول العلائي: لعل وجهه أن المصور الذي قدر كونه نبياً لما اشتمل على جهتين البشرية صورة والملكية حقيقة لم يبعد أن يكون دليلاً على أن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكاً كهذا المصور باعتبار حقيقته أو بشراً مثله باعتبار صورته مما لا يتبلج له وجه القبول.