التفاسير

< >
عرض

وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
١٣٧
-الأعراف

روح المعاني

{ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ } بالاستعباد وذبح الأبناء، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده، والمراد بهم بنو إسرائيل، وذكروا بهذا العنوان إظهاراً لكمال اللطف بهم وعظم الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة، ولعل فيه إشارة إلى إن الله سبحانه عند القلوب المنكسرة. ونصب { ٱلْقَوْمَ } على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه:

{ مَشَـٰرقَ ٱلأَرْض وَمَغَاربَهَا } أي جميع جهاتها ونواحيها، والمراد بها على ما روي عن الحسن وقتادة وزيد بن أسلم أرض الشام، وذكر محي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر، وفي رواية أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين، وإلى ذلك ذهب الجبائي، ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد، أي أورثنا المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم، ومعنى توريثهم إياها على القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داوود وسليمان عليهما السلام، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة إليه. على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم يكن لبني إسرائيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان التمكن في الأرض المقدسة، والسوق على ما قيل يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه لا ما ملكوه، وأقول قد يقال: المراد بالأرض هنا وفيما تقدم من قوله سبحانه: { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [الأعراف: 129] الأرض المقدسة التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل الله تعالى إياهم خلفاء فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء أولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء مساكن الآباء.

{ ٱلَّتي بَـٰرَكْنَا فيهَا } بالخصب وسعة الأرزاق أو بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها. فقد أخرج ابن أبـي شيبة عن أبـي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام. / وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبـي إلا من الشام فإن لم يكن منها أُسْري به إليها، وأخرج أحمد "عن عبد الله بن خوالة الأزدي أنه قال: يا رسول الله خر لي بلداً أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبـي إليه خيرته من عباده" ، وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله تعالى يسكنها خيرته من عباده، وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام" وجاء من حديث أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان والحاكم أيضاً وصححه عن زيد بن ثابت "أنه صلى الله عليه وسلم قال: طوبى للشام فقيل له: ولم؟ قال: إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها" والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في الكثير منها مقالاً وسبب الوضع كان قوياً، وهو اسم لأحد الأقاليم العرفية، وفي «القاموس» ((أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت لذلك، [أو] لأن قوماً من بني كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سُمِّي بسام بن نوح فإنه بالشين بالسريانية، أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا تهمز)) وأخرج ابن أبـي حاتم عن أبـي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده؟ فقال: أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبـي عليه السلام، وليس المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة فيها، وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في «حواشينا على شرح مختصر السمرقندية» لابن عصام، وقد ولع الناس في دمشق مدحاً وذماً فقال بعضهم:

تجنب دمشق ولا تأتها وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق وفجر الفجور بها طالع

وقال آخر:

دمشق غدت جنة للورى زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي ولا عيب فيها سوى أهلها

وقال آخر في الشام ولعله عنى متعارف الناس:

قيل لي ما يقول في الشام حبر شام من بارق الهنا ما شامه
قلت ماذا أقول في وصف أرض هي في وجنة المحاسن شامه

وأنا أقول إذا صح الحديث فهو مذهبـي ونعوذ بالله تعالى من اتباع الهوى، والموصول صفة المشارق والمغارب، وقيل: صفة الأرض وضعفه أبو البقاء بأن فيه العطف على الموصوف قبل الصفة وهو نظير قولك: قام أم هند وأبوها العاقلة، وجوز أن يكون المفعول الثاني لأورثنا أي الأرض التي فعلى هذا يكون نصب المشارق وما عطف عليه بيستضعفون على معنى يستضعفون فيها وأن يكون المشارق منصوبة بيستضعفون والتي صفة كما في الوجه الأول والمفعول الثاني لأورثنا محذوف أي الأرض أو الملك، ولا يخفى بعده وأن المتبادر هو الأول.

{ وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَى عَلَى بَني إسْرَآءيلَ } أي مضت عليهم واستمرت من قولهم: مضى على الأمر إذا استمر، والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق { { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } [الأعراف: 129] الخ، وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي يؤذن به قوله سبحانه: { { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ / عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } [القصص: 5]، وقيل: المراد بها علمه تعالى الأزلي، والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدراً من إهلاك عدوهم وتوريثهم الأرض، و { ٱلْحُسْنَى } تأنيث الأحسن صفة للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون، وعن الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا يخفى أنه يأباه السباق والسياق، والتفت من التكلم إلى الخطاب في قوله سبحانه: { رَبِّكَ } على ما قال الطيبـي لأن ما قبله من القصص كان غير معلوم له صلى الله عليه وسلم. وأما كونه جل شأنه منجزاً لما وعد ومجرياً لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه الصلاة والسلام، وذكر في «الكشف» أنه أدمج في هذا الالتفات أنه ستتم كلمة ربك في شأنك أيضاً. وقرأ عاصم في رواية { كلمات } بالجمع لأنها مواعيد، والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة، وقد ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله التأنيث بالتاء؛ وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه: { { مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18].

{ بمَا صَبَرُوا } أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر ضمن الله تعالى له الفرج. وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا الله تعالى لم يلبثوا أن يرفع الله تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم تلى هذه الآية، وفي رواية أخرى عنه قال: ما أوتيت بنو إسرائيل ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت بخير. وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئاً ولا تم لهم مراد ولا حمد منهم أمر، بل وقعوا في حرة رحيله، ووادي خدبات، وأم حبوكر، ورموا لعمر الله بثالثة الأثافي، وقص من جناح عزهم القدامى والخوافى ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر وما أحسن قول الحسن:

عجبت ممن خف كيف خف

وقد سمع قوله سبحانه وتلا الآية، ويعلم منها أن التحزن لا ينافي الصبر لأن الله سبحانه وصف بني إسرائيل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [الأعراف: 129].

{ وَدَمَّرْنَا } أي خربنا وأهلكنا { مَا كَانَ يَصْنَعُ فرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ } في أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو ويصنعه فرعون على أن { مَا } موصولة واسم { كَانَ } ضمير راجع إليها وجملة { يَصْنَعُ فرْعَوْنَ } من الفعل والفاعل خبر { كَانَ } والجملة صلة الموصول والعائد إليه محذوف، وجوز أن يكون فرعون اسم { كَانَ } و { يَصْنَعُ } خبر مقدم والجملة الكونية صلة { مَا } والعائد محذوف أيضاً. وتعقبه أبو البقاء بأن { يَصْنَعُ } يصلح أن يعمل في { فِرْعَوْنَ } فلا يقدر تأخيره كما لا يقدر تأخير الفعل في قولك: قام زيد وفيه غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر وقيل: { مَا } مصدرية و { كَانَ } سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون الخ، وقيل: كان كما ذكر و { مَا } موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير ودمرنا الذي يصنعه فرعون الخ أي صنعه، والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان، وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد. وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي النحل [68] { { يَعْرِشُوَن } بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر / على ما ذكر اليزيدي وأبو عبيدة أفصح، وقرىء في الشواذ { يغرسون } من غرس الأشجار. وفي «الكشاف» أنها تصحيف وليس به.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت لتقدسها منقادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا وإذا أرسلها عند الاحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان تلقف ما يأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا المغالطات فيغلبهم ويقهرهم. وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق. وجعل بعضهم فرعون إشارة إلى النفس الأمارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر وعلى هذا القياس. وأول النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى. وقد ذكر غير واحد أن السحر كان غالباً في زمن موسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته ما كانت، والطب ما كان غالباً في زمن عيسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب؛ والفصاحة كانت غالباً في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم والتفاخر بها أشهر من (قفا نبك) فلهذا كانت معجزته القرآن، وإنما كانت معجزة كل نبـي من جنس ما غلب على زمانه ليكون ذلك أدعى إلى إجابة دعواه.