التفاسير

< >
عرض

فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
١٦٥
-الأعراف

روح المعاني

{ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية، وهو خلاف الظاهر. والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازاً مرسلاً لعلاقة السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعضهم المحققين لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه انجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى: { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ } إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الإنجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل: فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا { لِمَ تَعِظُونَ } [الأعراف: 164] الخ وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضاً إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثاً منك ولم يكن إلا سبباً للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: { { فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِمْ } [الكهف: 6] وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه: { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ } وقوله جل وعلا: { وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة: جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال: نجت الساكتة، ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد، وروي عن أبـي عبد الله رضي الله تعالى عنه فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون.

{ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكر، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة، والأكثرون على كونه وصفاً من بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد. / وقال الراغب: البؤس ((البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقرة والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية))، وقرأ أبو بكر { بيئس } على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسماً أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه { بيئس } بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل، وقرأ ابن عامر { بئس } بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع { بيس } على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل: إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل ذم جعلت اسماً كما في قيل وقال، والمعنى بعذاب مذموم مكروه، وقرىء { بيس } كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم إدغامها في الياء، وقيل: على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل إعلاله و { بيس } على التخفيف كهين و { بائس } بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة، وقرىء غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل.

{ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سبباً للأخذ كما كان سبباً للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضاً، ولم يكتف بالأولى لما لا يخفى.