التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
-الأعراف

روح المعاني

{ وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } أي ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير ذلك. { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم عليه من الإصرار على الباطل نفعل التفصيل المذكور، وقيل: المعنى ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك، وأياً ما كان فالواو ابتدائية كالتي قبلها، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر، أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون، وقيل: إنها سيف خطيب.

هذا ومن باب الإشارة: قالوا: { { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ } [الأعراف: 163] أي عن أهل قرية الجسد وهم الروح والقلب والنفس الأمارة وتوابعها { { ٱلَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ } [الأعراف: 163] أي مشرفة على شاطىء بحر البشرية { { إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ } [الأعراف: 163] يتجاوزون حدود الله تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو النفس الأمارة فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلاً حريصة على تناول ما نهيت عنه والمرء حريص على ما منع { { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ } [الأعراف: 163] وهي الأمور التي نهوا عن تناولها { { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } [الأعراف: 163] الذي أمروا بتعظيمه { { شُرَّعاً } [الأعراف: 163] قريبة المأخذ { { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [الأعراف: 163] بأن لا يتهيأ لهم ما يريدونه { { كَذٰلِكَ نَبْلُوهُم } [الأعراف: 163] نعاملهم معاملة من يختبرهم { { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [الأعراف: 163] أي بسبب فسقهم المستمر طبعاً.

قال بعضهم: ما كان ما قص الله تعالى إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة كأوقات زيارة مشاهد الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس { { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ } [الأعراف: 164] وهي القلب وأتباعه للأمة الواعظة وهي الروح وأتباعها { { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا } [الأعراف: 164] وهم النفس الأمارة وقواها { { ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً / شَدِيداً } [الأعراف: 164] على فعلهم { { قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِكُمْ } [الأعراف: 164] أي نعظهم معذرة إليه تعالى وذلك أنا خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنريد أن نقضي ما علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا { { ولعلهم يتقون } [الأعراف: 164] لأنهم قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم { { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } [الأعراف: 165] لغلبة الشقوة عليهم { { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوءِ } [الأعراف: 165] وهم الروح والقلب وأتباعهما فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم لم يمل { { وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [الأعراف: 165] أي شديد وهو عذاب حرمان قبول الفيض { { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [الأعراف: 165] أي بسبب تماديهم على الخروج عن الطاعة { { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } [الأعراف: 166] أي أبوا أن يتركوا ذلك { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ } [الأعراف: 166] أي جعلنا طباعهم كطباعهم وذلك فوق حرمان قبول الفيض { { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } [الأعراف: 167] أي اقسم { { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [الأعراف: 167] أي قيامتهم { { مَن يَسُومُهُمْ } [الأعراف: 167] وهو التجلي الجلالي { { سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [الأعراف: 167] وهو عذاب القهر وذل اتباع الشهوات { { وَقَطَّعْنَـٰهُمُ } [الأعراف: 168] أي فرقنا بني إسرائيل الروح { فِي ٱلأَرْضِ } [الأعراف: 168] أي أرض البدن { { أُمَمًا } [الأعراف: 168] جماعات { { مّنْهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ } [الأعراف: 168] أي الكاملون في الصلاح كالعقل { { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } [الأعراف: 168] فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس الأمر { { وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168] تجليات الجمال والجلال { { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف: 168] بالفناء إلينا { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } وهي النفس وقواها { وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } وهو ما ألهم الله تعالى العقل والقلب { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ } وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } ولا بد لأنا واصلون كاملون وهذا حال كثير من متصوفة زماننا فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار ويقولون: إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون. وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول: إن النفي والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بين أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك. وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول: كل منا بحر والبحر لا ينجس ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير. ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذب لا أصل له وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه حاشا { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } أي إنهم مصرون على هذا الفعل القبيح { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ ٱلْكِتَـٰبِ } الوارد فيما ألهمه الله تعالى العقل والقلب { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } فكيف عدلوا عنه { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } مما فيه رشادهم { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } المشتملة على اللذات الروحانية { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأعراف: 169] عرض هذا الأدنى { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ } أي يتمسكون بما ألهمه الله تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } ولم يألوا جهداً في الطاعة { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } [الأعراف: 170] منهم وأجرهم متفاوت حسب تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } غمامة عظيمة { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } إن لم يقبلوا أحكام الله سبحانه { خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَـٰكُم بِقُوَّةٍ } بجد وعزيمة { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } من الأسرار { { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأعراف: 171] تنتظمون في سلك المتقين على اختلاف مراتب تقواهم. والكلام على قوله سبحانه: { وَإِذْ أَخَذَ } ربك الخ من هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبـي صلى الله عليه وسلم وكذا / هي أول مجيب من الأرض لما خاطب الله سبحانه السماوات والأرض بقوله جل وعلا: { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11] وكانت من تربة الكعبة وهي أول ما خلق من الأرض ومنها دحيت كما جاء عن ابن عباس رض الله تعالى عنهما، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلى الله عليه وسلم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها، وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته، ولكن قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت درة ذرة النبـي صلى الله عليه وسلم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم بالمدينة، ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلى الله عليه وسلم قيل: ولكون ذرته أم الخليقة سمي أمياً، وذكر بعضهم أن الباء لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل مولود يولد على الفطرة، قيل: ولعظم ما أودع الله سبحانه وتعالى في الباء من الأسرار افتتح الله تعالى به كتابه بل افتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة ما عدا التوبة وافتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء أيضاً، ولكون الهمزة وتسمى ألفاً أول حرف قرع أسماعهم في ذلك المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا إليه أول الكتاب والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب.