التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١٨٨
-الأعراف

روح المعاني

{ قُلْ لاَ أَمْلِك لِنَفْسِى نَفْعاً ولاَ ضراً } أي لا أملك لأجل نفسي جلب نفع مّا ولا دفع ضرر مّا. / والجار والمجرور كما قال أبو البقاء إما متعلق بأملك أو بمحذوف وقع حالا من { نَفْعاً }. والمراد لا أملك ذلك في وقت من الأوقات { إِلاَّ مَا شَاءَ ٱللَّهُ } أي إلا وقت مشيئته سبحانه بأن يمكنني من ذلك فإنني حينئذ أملكه بمشيئته، فالاستثناء متصل وفيه دليل كما قال الشيخ إبراهيم الكوراني على أن قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى ومشيئته، وقيل: الاستثناء منقطع أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن، وفيه على هذا من اظهار العجز ما لا يخفى، والكلام مسوق لإثبات عجزه عن العلم بالساعة على أتم وجه، وإعادة الأمر لإظهار العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله ومغايرته للأول.

{ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } أي الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمدافعة والممانعة { لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ } أي لحصلت كثيراً من الخير الذي نيط بترتيب الأسباب ورفع الموانع { وَمَا مَسَّنَى ٱلسَّوْء } أي السوء الذي يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه وإن كان منه ما لا مدفع له وكأن عدم مس السوء من توابع استكثار الخير في الجملة، ولذا لم يسلك في الجملة الثانية نحو مسلك الجملة الأولى، والاستلزام في الشرطية لا يلزم أن يكون عقلياً وكلياً بل يكفي أن يكون عادياً في البعض. وقد حكم غير واحد أنه في الآية من العادي، وبذلك دفع الشهاب ما قيل: إن العلم بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه ومنشؤه الغفلة عن المراد.

وحمل الخير والسوء على ما ذكر هو الذي ذهب إليه جلة المحققين. وفسر بعض الأول بالربح في التجارة والفوز بالخصب. والثاني بضد ذلك بناء على ما روي عن الكلبـي أن أهل مكة قالوا، يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري فنربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى ما قد أخصب فنزلت.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأول بالربح في التجارة والثاني بالفقرة، وقيل: الأول الجواب عن السؤال والثاني التكذيب، وقيل: الأول الاشتغال بدعوة من سبقت له السعادة، والثاني النصب الحاصل من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب. وقيل: ونسب إلى مجاهد وابن جريج المراد من الغيب الموت، ومن الخير الإكثار من الأعمال الصالحة، ومن السوء ما لم يكن كذلك، وقيل: غير ذلك، والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، وقدم ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتى بالضر والنفع معاً تقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفاً من عقابه أولاً ثم يعبده طمعاً في ثوابه ثانياً كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [السجدة: 16] وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفاً لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى: { { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ } [الأعراف: 178] الخ وفي الرعد [15] تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه: { { طَوْعًا وَكَرْهًا } وهو نفع، وفي الفرقان [53] تقدم العذب في قوله جل وعلا: { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } وهو نفع، وفي سبأ [36] تقدم البسط في قوله تبارك اسمه: { رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } وليقس على هذا غيره، وابن جريح يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى.

واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر، وعد / ذلك من أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام، واختلف في الجواب فقيل: المفهوم من الآية نفي علمه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك بالغيب المفيد لجلب المنافع ودفع المضار التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وما يعلمه صلى الله عليه وسلم من الغيوب ليس من ذلك النوع وعدم العلم به مما لا يطعن في منصبه الجليل عليه الصلاة والسلام. وقد أخرج مسلم عن أنس وعائشة رضي الله تعالى عنهما "أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: عليه الصلاة والسلام: لو لم تفعلوا لصلح فلم يفعلوا فخرج شيصاً فمر بهم صلى الله عليه وسلم فقال: ما لقحتم؟ قالوا: قلت كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم" وفي رواية أخرى له أنه عليه الصلاة والسلام قال حين ذكر له أنه صار شيصاً: "إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان من أمر دينكم فإليّ" وقد عد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأمر الدنيا كمالاً في منصبه إذ الدنيا بأسرها لا شيء عند ربه. وقيل: المراد نفي استمرار علمه عليه الصلاة والسلام الغيب، ومجيء كان للاستمرار شائع، ويلاحظ الاستمرار أيضاً في الاستكثار وعدم المس. وقيل: المراد بالغيب وقت قيام الساعة لأن السؤال عنه وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه ولم يخبر به أصلاً، وحينئذ يفسر الخير والسوء بما يلائم ذلك كتعليم السائلين وعدم الطعن في أمر الرسالة من الكافرين، وقيل: أل في الغيب للاستغراق وهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم كل غيب فإن من الغيب ما تفرد الله تعالى به كمعرفة كنه ذاته تبارك وتعالى وكمعرفة وقت قيام الساعة على ما تدل عليه الآية.

وفي «لباب التأويل» للخازن في الجواب عن ذلك أنه يحتمل أن يكون هذا القول منه عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع والأدب، والمعنى لا أعلم الغيب ألا أن يطلعني الله تعالى عليه ويقدره لي، ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله تعالى على الغيب فلما أطلعه أخبر به، أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله تعالى على أشياء من المغيبات ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم انتهى، وفيه تأمل؛ وكلام بعض المحققين يشير إلى ترجيح الأول.

ومعنى قوله سبحانه: { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } على ذلك ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة وشأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبينهما وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة واقترابها وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الإنذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، وتقديم النذير لأن المقام مقام انذار { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي يصدقون بما جئت به، والجار إما متعلق بالوصفين جميعاً والمؤمنون ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالتبشير وإما متعلق بالأخير ومتعلق الأول محذوف أي نذير للكافرين، وحذف ليطهر اللسان منهم. وأراد بعضهم من الكافرين المستمرين على الكفر ومن مقابلهم الذين يؤمنون في أي وقت كان وحينئذ في الآية ترغيب للكفرة في أحداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان.