التفاسير

< >
عرض

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٥٣
-الأعراف

روح المعاني

{ هَلْ يَنظُرُونَ } أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به شيئاً { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي عاقبته وما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد، والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث إن ما ذكر يأتيهم لا محالة، وحينئذٍ فلا يقال: كيف ينتظرونه وهم جاحدون غير متوقعين له؟. وقيل: إن فيهم أقواماً يشكون ويتوقعون فالكلام من قبيل ـ بنو فلان قتلوا زيداً ـ { يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ } وهو يوم القيامة، وقيل: هو ويوم بدر { يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ } أي تركوه ترك المنسي فأعرضوا عنه ولم يعملوا به { مِن قَبْلُ } أي من قبل إتيان تأويله { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقّ } أي قد تبين أنهم قد جاؤوا بالحق، وإنما فسر بذلك لأنه الواقع هناك ولأنه الذي يترتب عليه طلب الشفاعة المفهوم من قوله سبحانه: { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا } اليوم ويدفعوا عنا ما نحن فيه { أَوْ نُرَدُّ } عطف على الجملة قبله داخل معه في حكم الاستفهام.

و { مِنْ } مزيدة في المبتدأ. وجوز أن تكون مزيدة في الفاعل بالظرف كأنه قيل: هل لنا من شفعاء أو هل نرد إلى الدنيا؟ ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم كما تقول ابتداء هل يضرب زيد، ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه فلا يقدر هل يشفع لنا شافع أو نرد قاله الزمخشري، وأراد ـ كما في «الكشف» ـ لفظاً لأن الظرف مقدر بجملة، و { هل } مما له اختصاص بالفعل، والعدول للدلالة على أن تمني الشفيع أصل وتمنى الرد فرع لأن ترك الفعل إلى الاسم مع استدعاء هل للفعل يفيد ذلك فلو قدر لفاتت نكتة العدول معنى مع الغنى عنه لفظاً، وقرأ ابن أبـي إسحاق { أو نرد } بالنصب عطفاً على { فيشفعوا لنا } المنصوب في جواب الاستفهام أو لأن { أَوْ } بمعنى إلى أن أو حتى أن على ما اختاره الزمخشري إظهاراً لمعنى السببية، قال القاضي: فعلى الرفع المسؤول أحد الأمرين الشفاعة والرد إلى الدنيا، وعلى النصب المسؤول أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين من الشفاعة في العفو عنهم والرد إن كانت { أَوْ } عاطفة وإما لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى أن إذ معناه حينئذٍ يشفعون إلى الرد، وكذا إذا كانت بمعنى حتى إن أي يشفعون حتى يحصل الرد.

{ فَنَعْمَلَ } بالنصب جواب الاستفهام الثاني أو معطوف على { نرد } مسبب عنه على قراءة ابن أبـي إسحاق. وقرأ الحسن بنصب { نرد } ورفع { نعمل } أي فنحن نعمل { غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ } أي في الدنيا من الشرك والمعصية { قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الشرك والمعاصي { وَضَلَّ عَنْهُم } غاب وفقد { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي الذي كانوا يفترونه من الأصنام شركاء لله سبحانه وشفعاءهم يوم القيامة، والمراد أنه ظهر بطلانه ولم يفدهم شيئاً.

/ ومن باب الإشارة في الآيات: { وَيَـٰـئَادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } [الأعراف: 19] أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد. وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الأدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك. ولشرف آدم عليه السلام وجه النداء إليه وزوجه تبع له في السكنى { ٱلْجَنَّةَ } هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا } [الأعراف: 19] لا حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [الأعراف: 19] أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما { { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ } [الأعراف: 19] الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما. وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحنة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال: إن هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه السلام كما خمر طينته بيده لها

فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها

وأن المنع كان تحريضاً على تناولها فالمرء حريص على ما منع، واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما تكلف فإن أردته فارجع إليه { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سوءَاتِهِمَا } [الأعراف: 20] أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل { { وَقَالَ مَا نَهَـٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَـٰلِدِينَ } [الأعراف: 20] أوهمهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذاتاً ملكية وخلوداً فيها أو ملكاً ورياسة على القوى بغير زوال إن قرىء { مَلَكَيْنِ } بكسر اللام. { فَدَلَّـٰهُمَا } فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها { بِغُرُورٍ } بما غرهما من كأس القسم المترعة من حميا ذكر الحبيب { فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا } والقليل منها بالنسبة إليهما كثير { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } أي يكتمان هاتيك السوآت والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا } بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات { { عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [الأعراف: 22] وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا } بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها علينا { وَتَرْحَمْنَا } بإفاضة المعارف الحقيقية { { لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } [الأعراف: 23] الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي { قَالَ ٱهْبِطُواْ } إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني { { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [الأعراف: 24] لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية. وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع { يَـٰبَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } وهو لباس الشريعة { يُوٰرِى } يستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم بشعاره ودثاره { وَرِيشًا } زينة وجمالاً في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات { وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ } أي صفة الورع والحذر من صفات النفس { ذٰلِكَ خَيْرٌ } من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء. ويقال: لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول: / منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوأة الطمع في الدنيا وما فيها. ولباس الثاني: محبة ذي المجد الأسنى ويتوارى به سوأة التعلق بالسوي. ولباس الثالث: رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سوأة رؤية غيره في الأولى والأخرى. ولباس الرابع: البقاء بهوية ذي القدس الأسنى ويتوارى به سوأة هوية ما في السمٰوات وما في الأرض وما تحت الثرى قيل: وهذا إشارة إلى الحقيقة، وربما يقال: اللباس المواري للسوآت إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها على حسن الأخلاق وبذلك يتزين الإنسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوى وهو أكمل أنواع التقوى { ذٰلِكَ } أي لباس التقوى { مِنْ آيَـٰتِ ٱللَّهِ } أي من أنوار صفاته سبحانه إذ التوقي من صفات النفس لا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى { { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأعراف: 26] عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم { يَـٰبَنِى ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } الفطري النوري { { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [الأعراف: 27] وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني. { قُلْ أَمَرَ رَبّي بِٱلْقِسْطِ } بالعدل وهو الصراط المستقيم { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } أي ذواتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } أي مقام سجود أو وقته، والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالإخلاص وترك الالتفات إلى السوى ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور، وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه عنده بأن لا يرى مؤثراً غير الله تعالى أصلاً. وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لا يكره شيئاً من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخط على المخالف والتعيير له والاستخفاف به. وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الآنية والاثنينية فلا يطغى بحجاب الآنية ولا يتزندق بالإباحة وترك الإطاعة. { وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه { كَمَا بَدَأَكُمْ } أظهركم بإفاضة هذه التعينات عليكم { { تَعُودُونَ } [الأعراف: 29] إليه أو كما بدأكم لطفاً أو قهراً تعودون إليه فيعاملكم حسبما بدأكم { فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ } كما ثبت ذلك في علمه { إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَـٰطِينَ } من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية { أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } للمناسبة التامة بين الفريقين { { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الأعراف: 30] لقوة سلطان الوهم { يَـٰبَنِى ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } فأخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة حقوق الاستقامة ولكل مقام مقال { { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } [الأعراف: 31] بالإفراط والتفريط فإن العدالة صراط الله تعالى المستقيم. { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } أي منع عنها وقال: لا يمكن التزين بها { وَالْطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرّزْقِ } كعلوم الإخلاص ومقام التوكل والرضا والتمكين { { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الأعراف: 32] الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ } رذائل / القوة البهيمية { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ } رذائل القوة السبعية { { وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33] رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة { وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } ينتهون عنده إلى مبدئهم { { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34] لأن وقوع ما يخالف العلم محال { يَـٰبَنِى ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } من جنسكم، وقيل: هي العقول، وقال النيسابوري: التأويل إما يأتينكم إلهامات من طريق قلوبكم وأسراركم، وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته { فَمَنِ ٱتَّقَىٰ } في الفناء { وَأَصْلَحَ } بالاستقامة عند البقاء { { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأعراف: 35] لوصولهم إلى مقام الولاية { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم { وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا } بالاتصاف بالرذائل { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ } نار الحرمان { { هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } [الأعراف: 36] لسوء ما طبعوا عليه { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا } بأن قال: أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ } بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى { { أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } [الأعراف: 37] مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر. وقيل: الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } الدالة علينا { وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا } ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوٰبُ ٱلسَّمَاء } فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت { وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة { حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ } أي جمل أنفسهم المستكبرة { { فِى سَمّ ٱلْخِيَاطِ } [الأعراف: 40] أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق، وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جداً، وقد يقال: الخياط إشارة إلى خياط الشريعة، والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لا بد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم { لَهُم مّن جَهَنَّمَ } الحرمان { { مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف: 41] أي أن الحرمان أحاط بهم، وقيل: لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم. { وَنَادَى أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } المرحومون { أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } المحرمون { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا } من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد { حَقّاً } { فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ } وهو مؤذن العزة والعظمة { { بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } [الأعراف: 44] الواضعين الشيء في غير موضعه { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ } السالكين { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي الطريق الموصلة إليه سبحانه، وقيل: يصدون القلب والروح عن ذلك { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق، وقيل: يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها { وَهُم بِٱلأَخِرَةِ } أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى { { كَـٰفِرُونَ } [الأعراف: 45] لمزيد احتجابهم بما هم فيه { وَبَيْنَهُمَا } أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار { حِجَابٍ } فكل منهم محجوب عن صاحبه { وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ } أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب { رِجَالٌ } وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته، قيل: وإنما سموا رجالاً لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عز وجل تصرف الرجال بالنساء ولا يتصرف فيهم شيء من ذلك { يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَـٰهُمْ } لما أعطوا من نور الفراسة { وَنَادَوْاْ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ } أي جنة ثواب الأعمال { أَن سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ } بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار، وقيل: / إن سلامهم على أهل الجنة بإمدادهم بأسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم { لَمْ يَدْخُلُوهَا } أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم إليها { { وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [الأعراف: 46] في كل وقت بما هو أعلى وأغلى، وقيل: هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـٰرُهُمْ تِلْقَاءِ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } ليعتبروا { { قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [الأعراف: 47] بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ { { وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلأَعْرَافِ رِجَالاً } [الأعراف: 48] من رؤساء أهل النار، وإطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الأعراف كإطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه السلام. { { أَهَـٰؤُلاءِ } [الأعراف: 49] إشارة إلى أهل الجنة { وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاءِ } أي الحياة التي أنتم فيها { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به ما نلتم { قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا } في الأزل { { عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } [الأعراف: 50] لسوء استعدادهم، وقيل: إن الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصاً على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وأدخلوا النار على ما ماتوا طلبوا الماء أو الطعام { وَلَقَدْ جِئْنَـٰهُمْ بِكِتَـٰبٍ } وهو النبـي صلى الله عليه وسلم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا { فَصَّلْنَاهُ } أي أظهرنا منه ما أظهرنا { { عَلَىٰعِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 52] لأنهم المنتفعون منه وإن كان من جهة أخرى رحمة للعالمين { { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [الأعراف: 53] أي ما يؤول إليه عاقبة أمره، وقيل: الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الإنساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه: { { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [الأنعام: 139] وكما قال سبحانه: { { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } [الإسراء: 97] انتهى. ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور إشارة إلى الآفاق والأنفس وما يؤول إليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.