التفاسير

< >
عرض

فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ
٧٩
-الأعراف

روح المعاني

{ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ } بعد أن جرى عليهم ما جرى على ما هو الظاهر مغتماً متحسراً على ما فاتهم من الإيمان / متحزناً عليهم { وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } بالترغيب والترهيب ولم آل جهداً فلم يجد نفعاً ولم تقبلوا مني. وصيغة المضارع في قوله سبحانه: { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ } حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم، وخطابه عليه السلام لهم كخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى المشركين حين ألقوا في قليب بدر حين نادى يا فلان يا فلان بأسمائهم إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً وذلك مبني على أن الله تعالى يرد أرواحهم إليهم فيسمعون وذلك مما خص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويحتمل أنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التحزن والتحسر كما تخاطب الديار والأطلال، وجوز عطف { فَتَوَلَّىٰ } على { { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } [الأعراف: 78] فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك لكنه خلاف الظاهر، وأبعد من ذلك ما قيل إن الآية على التقديم والتأخير فتقديرها فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربـي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.

وقصة ثمود على ما ذكر ابن إسحاق وغيره أن عاداً لما هلكوا عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا في الأرض وعبدوا غير الله تعالى فبعث الله تعالى إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وكان صالح عليه السلام من أوسطهم نسباً وبعث إليهم وهو شاب فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر ولم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية تصدق ما يقول فقال لهم: أية آية تريدون؟ فقالوا: تخرج غداً معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فتدعو إلٰهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح: نعم فخرجوا وخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذٍ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة ـ لصخرة منفردة ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ـ ناقة مخترجة أي تشاكل البخت أو مخرجة على خلقة الجمل جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بـي قالوا: نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظماً وهم ينظرون ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشرافهم أن يؤمنوا به فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صعر كاهنهم فلما خرجت الناقة { قَالَ } لهم { هَـٰذِهِ نَاقَةُ } الله { { لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الشعراء: 155] فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرضهم ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال له الآن بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ثم ترفع رأسها وتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا من اللبن فيشربون ويدخرون ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر تصدر من حيث ترد لضيقه عنها حتى إذا كان الغد يومهم فيشربون ما شاؤوا ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة ولم يزالوا في سعة ورغد وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه وتشتو في بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره في برد وجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله تعالى بهم والبلاء والاختبار / فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لإحداهما عنيزة بنت غنم بن مجلز وتكنى بأم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزاً مسنة ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم ويقال للأخرى: صدوق بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا يحبان عقر الناقة لما أضرت من مواشيهما فدعت صدوق رجلاً يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبـى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج وجعلت له نفسها إن هو فعل فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة أم غنم قدار بن سالف وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً يزعمون أنه لزنية ولم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان عزيزاً منيعاً في قومه فرضي وانطلق هو ومصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة فكانوا تسعة رهط فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم فأمرت إحدى بناتها وكانت من أحسن الناس وجهاً فسفرت عن وجهها ليراها قدار ثم حثته على عقرها فشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فتحدر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هارباً حتى أتى جبلاً منيعاً يقال له قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يدفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوه على الجبل وراموه فلم ينالوه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها { فَقَالَ } لهم صالح: لكل رغوة أجل يوم { { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود: 65].

وعن ابن إسٰحق أنه تبع السقب من التسعة أربعة وفيهم مصدع فرماه بسهم فاصاب قلبه ثم جر برجله فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى فابشروا بعذابه ونقمته فكانوا يهزأون به ويقولون متى هو وما آيته؟ فقال: تصبحون غدا وكان يوم الخميس ووجوهكم مصفرة وبعد غد ووجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فهم أولئك الرهط بقتله فأتوه ليلاً فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطاؤا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ثم هموا به فمنع عنه عشيرته ثم لما رأوا العلامات طلبوه ليقتلوه فهرب ولحق بحي من ثمود يقال لهم: بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبـي هدب فطلبوه منه فقال: ليس لكم إليه سبيل فتركوه وشغلهم ما نزل بهم ثم خرج عليه السلام ومن معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا جميعاً إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد أن عاينت العذاب فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم الخبر ثم استسقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت وكان رجل منهم يقال له: أبو رغال وهو أبو ثقيف في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى فلما خرج أصابه ما أصابهم فدفن ومعه غصن من ذهب. وروي أن النبـي صلى الله عليه وسلم مر بقبره فأخبر بخبره فابتدره الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسيافهم فحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن. وروي أنه عليه السلام خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا / وكانوا ألفاً وخمسمائة دار. وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.

وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال: إن صالحاً لما نجا هو والذين معه قال: يا قوم إن هذه دار قد سخط الله تعالى عليها وعلى أهلها فاظعنوا والحقوا بحرم الله تعالى وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج وانطلقوا حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا فتلك قبورهم في غربـي الكعبة. وروى ابن الزبير عن جابر أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: "لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم" وذكر محيـى السنة البغوي أن المؤمنين الذين مع صالح كانوا أربعة آلاف وأنه خرج بهم إلى حضرموت فلما دخلها مات عليه السلام فسميت لذلك حضرموت ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضوراء، ثم نقل عن قوم من أهل العلم أنه توفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ولعله المعول عليه، وجاء أن أشقى الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله تعالى وجهه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك علياً رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه. وعندي أن أشقى الآخرين أشقى من أشقى الأولين. والفرق بينهما كالفرق بين علي كرم الله تعالى وجهه والناقة. وقد أشارت الأخبار بل نطقت بأن قاتل الأمير كان مستحلاً قتله بل معتقداً الثواب عليه وقد مدحه أصحابه على ذلك فقال عمران بن حطان غضب الله تعالى عليه:

يا ضربة من تقي ما أراد بها ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً

ولله در من قال:

يا ضربة من شقي أوردته لظى فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد شيئاً بضربته إلا ليصلى غدا في الحشر نيراناً
إني لأذكره يوماً فألعنه كذاك ألعن عمران بن حطانا

وكون فعله كان عن شبهة تنجيه مما لا شبهة في كونه ضرباً من الهذيان ولو كان مثل تلك الشبهة منجياً من عذاب مثل هذا الذنب فليفعل الشخص ما شاء سبحانك هذا بهتان عظيم. وقد ضربت بقدار عاقر الناقة الأمثال، وما ألطف قول عمارة اليمني:

لا تعجبا لقدار ناقة صالح فلكل عصر ناقة وقدار

وفي هذه القصة روايات أخر تركناها اقتصاراً على ما تقدم لأنه أشهر.