التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
٨٨
-الأعراف

روح المعاني

{ قَالَ ٱلْمَلأَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ } استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل له: فماذا قالوا له عليه السلام بعدما سمعوا منه هذه المواعظ؟ فقيل: قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء بل بالغين من العتو مبلغاً عظيماً { لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا } بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار، والتأكيد القسمي للمبالغة والاعتناء بالحكم و { مَعَكَ } متعلق بالإخراج لا بالإيمان، ونسبة الإخراج إليه عليه السلام أولاً وإلى المؤمنين ثانياً للتنبيه على أصالته عليه السلام في ذلك وتبعيتهم له فيه، وتوسيط النداء باسمه العلمي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان.

وقوله تعالى: { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } عطف على جواب القسم أي والله ليكونن أحد الأمرين البتة الإخراج أو العود على أن المقصد الأهم هو العود وإنما ذكر الأول لمجرد القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام بجواب الإخراج، والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى وهذا مما لا يمكن في حق شعيب عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عما دون الكفر بمراتب. نعم هو ممكن في حق من آمن به فإسناده إليه عليه السلام من باب التغليب، قيل: وقد غلب عليه المؤمنون هنا كما غلب هو عليهم في الخطاب فيكون في الآية حينئذ تغليبان، وقال غير واحد: أن تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة واللغويين فلا يستدعي العود إلى حالة سابقة وعلى ذلك قوله:

فإن لم تك الأيام تحسن مرة إليَّ فقد عادت لهن ذنوب

فكأنهم قالوا: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن مثلنا فحينئذ لا إشكال ولا تغليب، وكذا يقال فيما بعد وهو حسن ولا يأباه { إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } [الأعراف: 89] لاحتمال أن يقال بالتغليب فيه أو يقال إن التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه، ألا ترى إلى قوله سبحانه: { { فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ } [الأعراف: 83] وأمثاله.

وقال ابن المنير ((على احتمال تسليم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق يجاب بأنه على نهج قوله تعالى: { { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ } [البقرة: 257] فإن الإخراج يستدعي دخولاً سابقاً فيما وقع الإخراج منه، وهو غير متحقق في المؤمن والكافر الأصليين، لكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله تعالى العبد متيسراً لكل واحد منهما متمكناً منه لو أراده عبر عن تمكن المؤمن من الكفر، ثم عدوله عنه إلى الإيمان اختياراً بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقاً من الله تعالى له ولطفاً به وبالعكس في حق الكافر، وقد مضى نظير ذلك في قوله / تعالى: { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16] وهذا من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله تعالى على عباده)).

وقيل: إن هذا القول كان جارياً على ظنهم أنه عليه السلام كان في ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم أو أنه صدر عن رؤسائهم تلبيساً على الناس وإيهاماً لأنه كان على دينهم، وما صدر عنه عليه السلام في أثناء المحاورة وقع على طريق المشاكلة، وذكر الشهاب احتمالاً آخر في الجواب وهو أن الظاهر أن العود هو المقابل للخروج إلى ما خرج منه وهو القرية، والجار والمجرور في موضع الحال أي ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها كائنين في ملتنا فينحل الإشكال من غير حاجة إلى ما تقدم، ولا يخفى بعده. وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا بصورة الطواعية حذر الإخراج عن الوطن باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب، ومن الناس من زعم أن تعودن لا يصلح أن يكون جواباً للقسم لأنه ليس فعل المقسم، وجعل ما أشرنا إليه أولى في بيان المعنى مخلصاً من ذلك وهو باطل لأنه يقتضي أن القسم لا يكون على فعل الغير ولم يقل أحد به، وقد شاع نحو والله ليضربن زيد من غير نكير وعدي العود بفي إيماء إلى أن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.

{ قَالَ } استئناف كنظائره أي قال شعيب عليه السلام رداً لمقالتهم الباطلة وتكذيباً لهم في أيمانهم الفاجرة: { أَوَلَوْ كُنَّا كَـٰرِهِينَ } على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه، والواو للعطف على محذوف، وقد يقال لها في مثل هذا الموضع واو الحال أيضاً و { لَوْ } هي التي يؤتى بها لبيان ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية، والكلام هٰهنا في تقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه، فالجملة في موضع الحال من ضمير الفعل المقدر والمآل أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكاراً لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة غير أنه اكتفى بذكر الحالة التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعداً منه تنبيهاً على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءاً واضحاً لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى، وهذا بعض مما ذكره شيخ الإسلام في هذا المقام، وقد أطنب فيه الكلام وأتى بالنقض والإبرام فارجع إليه، وقد جوز أن يكون الاستفهام باقياً على حاله، وجعل بعضهم الهمزة بمعنى كيف، ووجه التعجيب إلى العود أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها وتقدير فعل العود لقوة دلالة الكلام عليه أولى من تقدير فعل الإعادة كما فعل الزمخشري، وفي «التيسير» تقدير فعل الإخراج أي تخرجوننا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان، وقد وجه بأن العود مفروغ عنه لا يتصور من عاقل فلا يكون إلا الإخراج، ولا يخفى ضعف هذا التقدير. وذكر أبو البقاء أن { لَوْ } هنا بمعنى أن لأنها للمستقبل، وجوز أن تكون على أصلها وما أشار إليه شيخ الإسلام في هذا المقام أبعد مغزى فليتأمل.