التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
١
-الأنفال

روح المعاني

{ بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد، ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد:

إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل

لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضاً وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كـ «من قتل قتيلاً فله سلبه»، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام وغيرهما، وإطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب، وقال الإمام عليه الرحمة: لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم، ووجه التسمية لا يلزم اطراده، وفي الخبر «إن المغانم كانت محرمة على الأمم فنفلها الله تعالى هذه الأمة»، وقيل: لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفوراً به سمي غنيمة، ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص، فقيل: الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء كان ببعث أو لا باستحقاق أو لا قبل الظفر أو بعده، والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء؛ وقيل: ما يفضل عن القسمة.

ثم إن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي إما لاستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها وإما لاستدعاء جدا أو ما يؤدي إليه، وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء، وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا ورداً ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار، وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو { { سَلْ بَنِى إِسْرٰءيلَ كَمْ ءَاتَيْنَـٰهُم } [البقرة: 211] والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وطائفة من الصحابة وغيرهم، وبالسؤال السؤال لاستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم ارتكاب التأويل، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعاً؟ فنزلت هذه الآية. وقال بعضهم: إن السؤال استعطاء، والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائداً على سهمه، وسبب النزول غير ما ذكر، فقد أخرج عبد الرزاق في «المصنف» وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلاً فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين فقال: يا رسول الله إنك قد وعدتنا، فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذه زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزل القرآن، وادعوا زيادة { عَنِ } واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود، وسعد بن أبـي وقاص وعلي بن الحسين وزيد ومحمد الباقر وجعفر الصادق وطلحة بن مصرف { يسألونك الأنفال } وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والايصال وليست دعوى زيادة { عَنِ } في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة إسقاط { عَنْ } على إرادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد، على أنه يبعد / القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى:

{ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقسمها النبـي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، فإن مبنى ذلك القول القول بأن السؤال استعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جواباً له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم [من الأنفال] بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور. وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا حق فيها للمنفل كائناً من كان لا سبيل إليه قطعاً ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل، وادعاء أن ثبوته بدليل متأخر التزام لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير، ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد وعكرمة والسدي من أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى: { { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [الأنفال: 41] لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى: { { وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } [الأنفال: 41] الآية، على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ [أيضاً] حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بل بين هنا إجمالاً أن الأمر مفوض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها، وإدعاء اقتصار الاختصاص بالرسول صلى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبىء عنه إظهار الأنفال في مقام الإضمار، على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة والسلام خاصة مما [لا] يليق بشأنه الكريم أصلاً. وقد روي عن سعد بن أبـي وقاص أنه قال: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فاعجبني فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة والسلام: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلاً حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه، وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه عليه الصلاة والسلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده رده صلى الله عليه وسلم قبل النزول وتعليله بقوله: ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلى الله عليه وسلم بما لا يقدر على إنجازه وإعطائه عليه الصلاة والسلام بعد النزول وترتيبه على قوله وقد صار لي ضرورة أن مناط صيرورته له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } والفرض إنه المانع من إعطاء المسؤول، ومما هو نص في الباب قوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فإنه لو كان السؤال طلباً للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة، وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ، وعدم صحة حمل السؤال على الاستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها، وأنا أقول: قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضاً، فقد أخرج ابن أبـي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان / وأبو الشيخ والبيهقي في «الدلائل» والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال: "لما كان يوم بدر قال النبـي صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا فاما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فانا كنا لكم ردءاً ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فنزلت: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ } الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية" ويشير إلى وقوعه أيضاً ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في «السنن» عن أبـي إمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمه عليه الصلاة والسلام بين المسلمين عن بواء، ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض.

وما ذكره من حديث سعد بن أبـي وقاص فقد أخرجه أحمد وابن أبـي شيبة عنه وهو مع أنه وقع فيه سعيد بن العاصي والمحفوظ كما قال: أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن، فقد أخرج عبد بن حميد والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد انه قال: "أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال: رده من حيث أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة والسلام فقلت: أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فأنزل الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ }" . فإن هذه الرواية ظاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل إن سعداً رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلاً على سهمه الشائع فيها. وأخرج النحاس في «ناسخه» عن سعيد بن جبير أن سعداً ورجلاً من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفاً ملقى فخرا عليه جميعاً فقال سعد: هو لي وقال الأنصاري: هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة والسلام: ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ } الآية، ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح، ولم نقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلاً عن النص على الأصحية.

نعم أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في «السنن» "عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال: إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت: عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت: قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة والسلام: كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ }" الخ، فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست ظاهرة في أن السيف كان سلباً له من عمير كما هو نص الرواية الأولى، وإن قلنا: إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها، وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط، / فلا بد من القول بالنسخ كما هو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد فيها حق أصلاً إلا أن يجود عليه عليه الصلاة والسلام كما يجود من سائر أمواله، والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي استند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه، وادعاء أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: فيه «وقد صار لي» أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على صحتها من الترمذي والحاكم «وإني قد وهب لي»، وحمل ذلك أيضاً على مثل ما حمل عليه الأول مما لا يكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم، وما ذكره قدس سره من أن قوله تعالى: { قُلِ ٱلأَنفَالُ } الخ لا يكون جواباً لسؤال الاستعطاء فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة والسلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه، وقد يجاب عنه بالتزام الحمل الذي ادعى أن لا سبيل إليه قطعاً ويقال بالنسخ، وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب، وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل، والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعدما يرفع الخمس للفقراء، وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير. وذكر في «السير الكبير» أنه لو قال: ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه إبطال الخمس الثابت بالنص، وبعين ذلك يبطل ما لو قال: من أصاب شيئاً فهو له لاتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان، وبه أيضاً ينتفي ما قالوا: لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة، وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة. وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح إن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب.

ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عند القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين، والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في اتحاده مع هذا التنفيل. وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره، وربما يقال: على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى: { { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } [الأنفال: 65] فإن في ذلك من التحريض ما لا يخفى، ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع، ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا بدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر، وإنباء الإظهار في مقام الإضمار على ما ادعاه في غاية الخفاء، وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان اختصاصه به عليه الصلاة والسلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلاً مما لا يكاد يسلم، كيف والحكم إلهي والنبـي صلى الله عليه وسلم مأمور بالإبلاغ، وقد يقال: حاصل الجواب يا قوم إن ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكم فيما فعل أولاً وآخراً فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك. ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما ادعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب، وقد يقال أيضاً: لا مانع من أن يحمل السؤال على الاستعلام، والاختصاص على اختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني، والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وإن حرم غيرهم ممن كان ردأ وملجأ حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم / الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إليَّ ولم يحجر علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردأ لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر بخفي حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البين، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعدين به.

{ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } بالرد والمواساة فيما حل بأيديكم { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في كل ما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهراً إلا أنه ليس بالبعيد جداً، ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد، وعكرمة والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك، هذا ثم إني أعود فأقول: إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها، ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك، والمراد بقوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } الخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولاً أولياً، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه، وعن السدي بعدم التساب. وعن عطاء كان الإصلاح بينهم "أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل: فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ليرد بعضكم على بعض" .

و { ذَاتَ } كما قيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف. و { بَيْنَ } أما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف أي أحوالاً ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم. وقال الزجاج وغيره: إن { ذَاتَ } هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول: اسقني ذا إنائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم. وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى أولاً وآخراً لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد: إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال، وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة. وقرأ ابن محيصن { يسألونك علنفال } بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة.

{ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنينَ } متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكورة عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور، وأياً ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم، وهو / يكفي في التعليق بالشرط، والمراد بالإيمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة. وقد يراد بالإيمان الإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر؛ فالمعنى إن كنتم كاملي الايمان فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد إرادة الكمال قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }.