التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
٣٦
-الأنفال

روح المعاني

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } نزلت على ما روي عن الكلبـي والضحاك ومقاتل في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً، أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وبنية ومنية ابنا الحجاج وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبـي بن خلف وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب وكلهم من قريش، وكان كل يوم يطعم كل واحد عشر جزر وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس، وروى ابن إسحاق أنها نزلت في أصحاب العير. وذلك أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبـي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصيب منا ففعلوا، وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنها نزلت في أبـي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش ليقاتل بهم النبـي صلى الله عليه وسلم سوى من استجاشهم من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية من الذهب وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من الذهب، وفيهم يقول كعب بن مالك من قصيدة طويلة أجاب بها هبيرة بن أبـي وهب:

فجئنا إلى موج من البحر وسطهم أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن عصابة ثلاث مئين إن كثرنا فأربع

وسبيل الله طريقه، والمراد به دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واللام في { لِيَصُدُّواْ } لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم الصد عن السبيل بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وكأن هذا بيان لعبادتهم المالية بعد عبادتهم البدنية، والموصول اسم { إِنَّ } وخبرها على ما قال العلامة الطيبـي في قوله تعالى: { فَسَيُنفِقُونَهَا } و{ يُنفِقُونَ } إما حال أو بدل من { كَفَرُواْ } أو عطف بيان، واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط كما في قوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } [البروج: 10] فهو جزاء بحسب المعنى، وفي تكرير الإنفاق في الشرط والجزاء الدلالة على كمال سوء الإنفاق كما في قوله تعالى: { { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [آل عمران: 192] وقولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى، والكلام مشعر بالتوبيخ على الإنفاق والإنكار عليه، قيل: وإلى هذا يرجع قول بعضهم إن مساق ما تقدم / لبيان غرض الإنفاق ومساق هذا لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد فليس ذلك من التكرار المحظور، وقيل: في دفعه أيضاً: المراد من الأول: الإنفاق في بدر. و{ يُنفِقُونَ } لحكاية الحال الماضية، وهو خبر { إِنَّ }، ومن الثاني: الإنفاق في أحد، والاستقبال على حاله، والجملة عطف على الخبر لكن لما كان إنفاق الطائفة الأولى سبباً لإنفاق الثانية، أتى بالفاء لابتنائه عليه، وذهب القطب إلى هذا الإعراب أيضاً على تقدير دفع التكرار باختلاف الغرضين، وذكر أن الحاصل أنا لو حملنا { يُنفِقُونَ } على الحال فلا بد من تغاير الإنفاقين وإن حملناه على الاستقبال اتحدا، كأنه قيل: إن الذين كفروا يريدون أن ينفقون أموالهم فسينفقونها، وحمل المنفق في الأول على البعض وفي الثاني على الكل لا أراه كما ترى.

وقوله سبحانه: { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } عطف على ما قبله، والتراخي زماني، والحسرة الندم والتأسف، وفعله حسر كفرح أي ثم تكون عليهم ندماً وتأسفاً لفواتها من غير حصول المطلوب، وهذا في بدر ظاهر، وأما في أحد فلأن المقصود لهم لم ينتج بعد ذلك فكان كالفائت، وضمير { تَكُونُ } للأموال على معنى تكون عاقبتها عليهم حسرة، فالكلام على تقدير مضافين أو ارتكاب تجوز في الإسناد. وقال العلامة الثاني: إنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة إنفاقهم حسرة بكون ذات الأموال كذلك وأطلق المشبه به على المشبه وفيه خفاء، ومن الناس من قال: إن إطلاق الحسرة بطريق التجوز على الإنفاق مبالغة فافهم { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } أي في مواطن أخر بعد ذلك { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي الذي أصروا على الكفر من هؤلاء ولم يسلموا { إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } أي يساقون لا إلى غيرها.