التفاسير

< >
عرض

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ
٩
-الأنفال

روح المعاني

{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } بدل من { { وَإِذْ يَعِدُكُمُ } [الأنفال: 7] وإن كان زمان الوعد غير زمان الاستغاثة لأنه بتأويل أن الوعد والاستغاثة وقعا في زمن واسع كما قال الطيبي، قيل: وهو يحتمل بدل الكل إن جعلا متسعين وبدل البعض إن جعل الأول متسعاً والثاني معياراً، وجوز أن يكون متعلقاً بقوله سبحانه: { { لِيُحِقَّ } [الأنفال: 8] واعترض بأنه مستقبل لنصبه بأن، { وَإِذْ } للزمان الماضي فكيف يعمل بها. وأجيب بأن ذلك مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة كابن مالك من أن { إِذْ } قد تكون بمعنى إذا للمستقبل كما في قوله تعالى: { { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ ٱلأَغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ } [غافر: 70-71]. وقد يجعل من التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه. وقال بعض المحققين في الجواب: إن كون الإحقاق مستقبلاً إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غاية له من الفعل المقدر لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثة حتى لا يعمل فيه بل هما في وقت واحد، وإنما عبر عن زمانها بإذ نظراً إلى زمن النزول، وصيغة الاستقبال في { تَسْتَغِيثُونَ } لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة، وقيل: هو متعلق بمضمر مستأنف أي اذكروا، وقيل: بـِ { تَوَدُّونَ } [الأنفال: 7] وليس بشيء.

والاستغاثة كما قال غير واحد: طلب الغوث وهو التخليص من الشدة والنقمة والعون، وهو متعد بنفسه ولم يقع في القرآن الكريم إلا كذلك، وقد يتعدى بالحرف كقوله:

حتى استغاث بماء لا رشاد له من الأباطح في حافاته البرك

وكذا استعمله سيبويه وزعم أنه خطأ خطأ، والظاهر أن المستغيث هم المؤمنون، قيل: إنهم لما علموا أن لا محيص من القتال أخذوا يقولون: أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين، وقال الزهري: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وظاهر بعض الأخبار يدل على أنه الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى / عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبـي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبـي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبـي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت الآية في ذلك، وعليه فالجمع للتعظيم.

{ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ } أي فأجاب دعاءكم عقيب استغاثتكم إياه سبحانه على أتم وجه { أَنّي مُمِدُّكُمْ } أي بأني فحذف الجار، وفي كون المنسبك بعد الحذف منصوباً أو مجروراً خلاف. وقرأ أبو عمر بالكسر على تقدير القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من جنس القول، والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر، وحمله على تنزيل غير المنكر بمنزلة المنكر بمنزلة المنكر عندي، والمراد بممدكم معينكم وناصركم { بِأَلْفٍ مّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي وراء كل ملك ملك كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وردف وأردف بمعنى كتبع وأتبع في قول. وعن الزجاج أن بينهما فرقاً فردفت الرجل بمعنى ركبت خلفه وأردفته بمعنى أركبته خلفي، وقال بعضهم: ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك فإذا فعلته بغيرك فأردفت لا غير، وجاء أردف بمعنى اتبع مشدداً وهو يتعدى لواحد وبمعنى أتبع مخففاً وهو يتعدى لاثنين على ما هو المشهور، وبكل فسر هنا، وقدروا المفعول والمفعولين حسبما يصح به المعنى ويقتضيه، وجعلوا الاحتمالات خمسة، احتمالان على المعنى الأول، أحدهما أن يكون الموصوف جملة الملائكة والمفعول المقدر المؤمنين، والمعنى متبعين المؤمنين أي جائين خلفهم، وثانيهما أن يكون الموصوف بعض الملائكة والمفعول بعض آخر، والمعنى متبعاً بعضهم بعضاً آخر منهم كرسلهم عليهم السلام، وثلاثة احتمالات على المعنى الثاني. الأول: أن يكون الموصوف كل الملائكة والمفعولان بعضهم بعضاً على معنى أنهم جعلوا بعضهم يتبع بعضاً. الثاني: كذلك إلا أن المفعول الأول بعضهم والثاني المؤمنين على معنى أنهم اتبعوا بعضهم المؤمنين فجعلوا بعضاً منهم خلفهم. والثالث: كذلك أيضاً إلا أن المفعولين أنفسهم والمؤمنين على معنى أنهم أتبعوا أنفسهم وجملتهم المؤمنين فجعلوا أنفسهم خلفهم.

وقرأ نافع ويعقوب { مُرْدِفِينَ } بفتح الدال، وفيه احتمالان أن يكون بمعنى متبعين بالتشديد أي اتبعهم غيرهم، وأن يكون بمعنى متبعين بالتخفيف أي جعلوا أنفسهم تابعة لغيرهم، وأريد بالغير في الاحتمالين المؤمنون، فتكون الملائكة على الأول مقدمة الجيش وعلى الثاني ساقتهم، وقد يقال: المراد بالغير آخرون من الملائكة، وفي الآثار ما يؤيده، أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «نزل جبريل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميمنة النبـي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبـي صلى الله عليه وسلم وأنا فيها» لكن في «الكشاف» بدل الألف في الموضعين خمسمائة، وقرىء { مردفين } بكسر الراء وضمها، وأصله على هذه القراءة مرتدفين بمعنى مترادفين فأبدلت التاء دالاً لقرب مخرجهما وأدغمت في مثلها فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل، أو لاتباع الدال أو بالضم لاتباع الميم، وعن الزجاج أنه يجوز في الراء الفتح أيضاً للتخفيف أو لنقل حركة التاء وهي / القراءة التي حكاها الخليل عن بعض المكيين، وذكر أبو البقاء أنه قرىء بكسر الميم والراء، ونقل عن بعضهم أن مردفاً بفتح الراء وتشديد الدال من ردف بتضعيف العين أو أن التشديد بدل من الهمزة كأفرحته وفرحته.

ومن الناس من فسر الارتداف بركوب الشخص خلف الآخر وأنكره أبو عبيدة وأيده بعضهم، وعن السدي أنه قرىء { بآلاف } على الجمع فيوافق ما وقع في سورة أخرى { { بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ } [آل عمران: 124] و { { بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ } [آل عمران: 125] قيل: ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم أو من قاتل منهم. وأخرج ابن أبـي حاتم عن الشعبـي أنه قال: كان ألف مردفين وثلاثة آلف منزلين وهو جمع ليس بالجيد. وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة أنهم أمدوا أولاً بألف ثم بثلاثة آلاف ثم أكملهم الله تعالى خمسة آلاف، وأنت تعلم أن ظاهر ما روي عن الحبر يقتضي أن ما في الآية ألفان في الحقيقة، وصرح بعضهم أن ما فيها بيان إجمالي لما في تلك السورة بناءً على أن معنى مردفين جاعلين غيرهم من الملائكة رديفاً لأنفسهم، وهو ظاهر في أن المراد بالألف الرؤساء المستتبعون لغيرهم، والأكثرون على أن الملائكة قاتلت يوم بدر، وفي الأخبار ما يدل عليه، وذكروا أنها لم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين، وتفصيل ذلك في السير، وقد تقدم بعض الكلام فيما يتعلق بهذا المقام فتذكر.