التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ
١
-يونس

التحرير والتنوير

تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة، لا محل لها من الإعراب، ولا يُنطق بها إلا على حال السكت، وحالُ السكت يعامَل معاملة الوقف، فلذلك لا يُمد اسم رَا في الآية، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد. ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف: را.ها.يا.طا.حا. التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة.

اسم الإشارة يجوز أن يكون مراداً به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم، فكأنها منظورة مشاهدة، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها.

واسمُ الإشارة يُفسر المقصودَ منه خبرُه وهو { آيات الكتاب الحكيم } كما فسره في قوله تعالى: { فهذا يومُ البعث } [الروم: 56] وقوله تعالى: { قال هذا فراقُ بيني وبينك } [الكهف: 78]. قال في «الكشاف»: تصَوَّر فراقاً بينهما سيقع قريباً فأشار إليه بهذا.

وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى: { ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده } في سورة [الأنعام: 88]. فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به. وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبي بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبي آيةً على صدقه، كما دل عليه قوله في هذه السورة [يونس: 15] { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآن غير هذا أو بَدله } فقيل لهم { تلك آيات الكتاب الحكيم }، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه.

ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة؛ فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي، كما دل عليه قوله تعالى: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارْتاب المبطلون } [العنكبوت: 48].

وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و{ آيات } خبره. وإضافة { آيات } إلى { الكتاب } إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق.

ويجوز أن تجعل الإشارة بـ{ تلك } إلى حروف { ألر } لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالإعجاز، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم. فيصح أن يجعل (ألـر) في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبراً عنه. والمعنى تلك الحروف آيات الكتاب الحكيم، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف.

والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذّبون بأن الكتاب منزل من عند الله، فلولا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالاً إذ هو مركب من حروف كلامهم.

والكتاب: القرآن. فالتعريف فيه للعهد. ويجوز جعل التعريف دالاً على معنى الكمال في الجنس، كما تقول: أنتَ الرجل.

والحكيم: وصف إما بمعنى فاعل، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها، مثل قوله: { ومُهيمِناً عليه } [المائدة: 48]، وقوله: { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [البقرة: 213].

وإما بمعنى مُفعَل بفتح العين، أي مُحكَم، مثل عَتِيد، بمعنى مُعَد.

وإما بمعنى ذي الحِكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوُصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشىء عن البليغ كقول الأعشى:

وغريبةٍ تأتي الملوك حَكِيمةقد قلتُها ليقال مَن ذَا قالها

وإما أن يكون وُصِفَ بوصف منزّله المُتكلم به، كما مشَى عليه صاحب «الكشاف» عند قوله تعالى: { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } [يس: 1، 3]

واختيار وصف { الحكيم } من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن؛ لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله: { الر تلك آيات الكتاب الحكيم }، ولِما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك.

وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا: { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثتُ فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون } [يونس 16].