التفاسير

< >
عرض

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
٩٤
وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٩٥
-يونس

التحرير والتنوير

تفريع على سياق القصص التي جعلها الله مثلاً لأهل مكة وعظة بما حل بأمثالهم. انتقل بهذا التفريع من أسلوب إلى أسلوب كلاهما تعريض بالمكذبين، فالأسلوب السابق تعريض بالتحذير من أن يحل ما حل بالأمم المماثلة لهم، وهذا الأسلوب الموالي تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث، وما في الكتب السابقة من الأنباء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد من { ما أنزلنا إليك } هو المنزل الذي تفرع عليه هذا الكلام وهو ما أنزل في هذه السورة من القصص.

ثم أن الآية تحتمل معنيين لا يستقيم ما سواهما؛ أولهما: أن تبقى الظرفية التي دلت عليها (في) على حقيقتها، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه، أي فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك، أي يشكون في وقوع هذه القصص، كما يقال: دخل في الفتنة، أي في أهلها. ويكون معنى { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به، فيزول الشك من نفوس أهل الشك إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار. فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعاً لمعذرتهم.

وثانيهما: أن تكون (في) للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى: { فلا تكُ في مرية مما يعبد هؤلاء } [هود: 109] ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التعريض لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة. وهذه طريقة في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى: { لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكُونَنّ من الخاسرين } [الزمر: 65] أو كان في ذلك الإلقاء رفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه كما في قصة الخصم من اللذين اختصما إلى داود المذكورة في سورة ص.

وكلا الاحتمالين يلاقي قوله: { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب، وأنهم يشهدون به، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها. وغير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية، ويقتضي أن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم لمكان قوله: { من قبلك }.

وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب، لأن قوله: { مما أنزلنا إليك } يناكد ذلك إلا بتعسف.

وإنما تكون جملة: { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } جواباً للشرط باعتبار ما تفيده مادة السؤال من كونهم يجيبون بما يزيل الشك، فبذلك يلتئم التلازم بين الشرط والجواب، كما دلت عليه جملة: { لقد جاءك الحق من ربك }.

وقرأ الجمهور { فاسأل } بهمزة وصل وسكون السين وهمزة بعد السين. وقرأه ابن كثير والكسائي { فسَل } بفتح السين دون همزة الوصل وبحذف الهمزة التي بعد السين مخفف سَأل.

فجملة: { لقد جاءك الحق من ربك } مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال ناشىء عن الشرط وجوابه، كأنّ السامع يقول: فإذا سألتهم ماذا يكون، فقيل: لقد جاءك الحق من ربك.

ولما كان المقصود من ذلك علم السامعين بطريق التعريض لا علم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنه ليس بمحل الحاجة لإعلامه بأنه على الحق قرنت الجملة بحرفي التأكيد، وهما: لام القسم وقد، لدفع إنكار المعرّض بهم.

وبذلك كان تفريع { فلا تكونن من الممترين } تعريضاً أيضاً بالمشركين بأنهم بحيث يُحذر الكون منهم.

والامتراء: الشك فيما لا شبهة للشك فيه. فهو أخص من الشك.

وكذلك عطف { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } وهو أصرح في التعريض بهم { فتكون من الخاسرين }. وهذا يقتضي أنهم خاسرون. ونظيره { لئن أشركت ليحبطنّ عملُك ولتكوننّ من الخاسرين } [الزمر: 65]، وحاصل المعنى: فإن كنتم شاكين في صدق ما أنزلنا على محمد مما أصاب المكذبين قبلَكم فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق، لقد جاءكم الحق من رب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تكونوا شاكّين ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين.