التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
١١٠
-هود

التحرير والتنوير

{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ }

اعتراض لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليتِه بأنّ أهل الكتاب وهم أحسن حالاً من أهل الشّرك قد أوتوا الكتاب فاختلفوا فيه، وهم أهل مِلّة واحدة فلا تَأس من اختلاف قومك عليك، فالجملة عطف على جملة { فلا تك في مرية } [هود: 109].

ولأجل مَا فيها من معنى التّثبيت فُرع عليها قوله: { فاستقم كما أمرت } [هود: 112].

وقوله: { فاختلف فيه } أي في الكتاب، وهو التّوراة. ومعنى الاختلاف فيه اختلاف أهل التّوراة في تقرير بعضها وإبطال بعض، وفي إظهار بعضها وإخفاء بعض مثل حكم الرجم، وفي تأويل البعض على هواهم، وفي إلحاق أشياء بالكتاب على أنّها منه، كما قال تعالى: { فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله } [البقرة: 79]. فهذا من شأنه أن يقع من بعضهم لا من جميعهم فيقتضي الاختلاف بينهم بين مُثبت ونافٍ، وهذا الاختلاف بأنواعه وأحواله يرجع إلى الاختلاف في شيء من الكتاب. فجمعت هذه المعاني جمعاً بديعاً في تعدية الاختلاف بحرف (في) الدالة على الظرفيّة المجازيّة وهي كالملابسة، أي فاختلف اختلافاً يلابسه، أي يلابس الكتاب.

ولأنّ الغرض لم يكن متعلّقاً ببيان المختلفين ولا بذمّهم لأنّ منهم المذموم وهم الذين أقدموا على إدخال الاختلاف، ومنهم المحمود وهم المُنكرون على المبدّلين كما قال تعالى: { منهم أمّةٌ مقتصدةٌ وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون } [المائدة: 66] وسيجيء قوله: { وإن كُلا لَمَا ليوفينّهم ربك أعمالهم } [هود: 111]، بل كان للتّحذير من الوقوع في مثله.

بُني فعل (اختلف) للمجهول إذ لا غرض إلاّ في ذكر الفعل لا في فاعله.

يجوز أن يكون عطفاً على جملة { وإنّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } [هود: 109] ويكون الاعتراض تمّ عند قوله: { فاختلف فيه }، وعليه فضمير { بينهم } عائد إلى اسم الإشارة من قوله: { ممّا يعبد هؤلاء } [هود: 109] أي ولولا ما سبق من حكمة الله أن يؤخّر عنهم العذاب لقضي بينهم، أي لقضى الله بينهم، فأهلك المشركين والمخالفين ونصر المؤمنين.

فيكون { بينهم } هو نائب فاعل (قُضي). والتّقدير: لوقع العذاب بينهم، أي فيهم.

ويجوز أن يكون عطفاً على جملة { فاختلف فيه } فيكون ضمير { بينهم } عائداً إلى ما يفهم من قوله: { فاختُلف فيه } لأنّه يقتضى جماعة مختلفين في أحكام الكتاب. ويكون { بينهم } متعلّقاً بـ(قُضي)، أي لحكم بينهم بإظهار المصيب من المخطىء في أحكام الكتاب فيكون تحذيراً من الاختلاف، أي أنّه إن وقع أمهل الله المختلفين فتركهم في شكّ. وليس من سنة الله أن يقضي بين المختلفين فيوقفهم على تمييز المحق من المبطل، أي فعليكم بالحذر من الاختلاف في كتابكم فإنّكم إن اختلفتم بقيتم في شك ولحقكم جزاء أعمالكم.

و{ الكلمة } هي إرادة الله الأزليّة وسنته في خلقه. وهي أنّه وكل النّاس إلى إرشاد الرسل للدّعوة إلى الله، وإلى النّظر في الآيات، ثم إلى بذل الاجتهاد التّام في إصابة الحق، والسعي إلى الاتفاق ونبذ الخلاف بصرف الأفهام السديدة إلى المعاني، وبالمراجعة فيما بينهم، والتبصّر في الحق، والإنصاف في الجدل والاستدلال، وأن يجعلوا الحق غايتهم والاجتهاد دأبهم وهجّيراهم. وحكمة ذلك هي أنّ الفصل والاهتداء إلى الحقّ مصلحة للنّاس ومنفعة لهم لا لله. وتمام المصلحة في ذلك يحْصل بأن يبذلوا اجتهادهم ويستعملوا أنظارهم لأنّ ذلك وسيلة إلى زيادة تعقلهم وتفكيرهم. وقد تقدّم في قوله تعالى: { وتمّت كلمات ربك صدقاً وعدلاً } في سورة [الأنعام: 115] وقوله: { ويريد الله أن يحقّ الحق بكلماته } في سورة [الأنفال: 7].

ووصفها بالسبق لأنّها أزلية، باعتبار تعلق العلم بوقوعها، وبأنّها ترجع إلى سنة كلية تقررت من قبل.

ومعنى { لقضي بينهم } أنّه قضاء استئصال المبطل واستبقاء المحق، كما قضى الله بين الرسل والمكذبين، ولكن إرادة الله اقتضت خلاف ذلك بالنسبة إلى فهم الأمة كتابها.

وضمير { بينهم } يعود إلى المختلفين المفاد من قوله: { فاختلف فيه } والقرينة واضحة.

ومتعلق القضاء محذوف لظهوره، أي لقضي بينهم فيما ختلفوا فيه كما قال في الآية الأخرى { إنّ ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [السجدة: 25].

يجوز أن يكون عطفاً على جملة { وإنّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } [هود: 109] فيكون ضمير { وإنّهم } عائداً إلى ما عاد إليه ضمير { ما يعبدون } [هود: 109] الآية، أي أنّ المشركين لفي شك من توفية نصيبهم لأنّهم لا يؤمنون بالبعث. ويلتئم مع قوله: { ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم } على أوّل الوجهين وأولاهما، فضمير { منه } عائد إلى { يوم } من قوله: { يوم يأتِ لا تكلم نفس } [هود: 105] إلخ.

ويجوز أن تكون عطفاً على جملة { فاختلف فيه }، أي فاختلف فيه أهله، أي أهل الكتاب فضمير { وإنّهم } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { بينهم } على ثاني الوجهين، أي اختلف أهل الكتاب في كتابهم وإنّهم لفي شكّ.

أمّا ضمير { منه } فيجوز أن يعود إلى الكتاب، أي أقدموا على ما أقدموا عليه على شكّ وتردّد في كتابهم، أي دون علم يوجب اليقين مثل استقراء علمائنا للأدلّة الشرعيّة، أو يوجب الظنّ القريب من اليقين، كظن المجتهد فيما بلغ إليه اجتهاده، لأن الاستدلال الصّحيح المستنبط من الكتاب لا يعدّ اختلافاً في الكتاب إذ الأصل متّفق عليه. فمناط الذمّ هو الاختلاف في متن الكتاب لا في التّفريع من أدلّته. ويجوز أن يكون ضمير { منه } عائداً إلى القرآن المفهوم من المقام ومن قوله: { ذلك من أنباء القرى نقصّه عليك } [هود: 100].

والمريب: المُوقع في الشكّ، ووصف الشكّ بذلك تأكيد كقولهم: ليل أليل، وشعر شاعر.