التفاسير

< >
عرض

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
١٢
-هود

التحرير والتنوير

تفريع على قولِه { وَلَئِنْ قُلْت إنّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْد الْمَوْت } [هود: 7] إلَى قوله { يَسْتَهْزئُون } [هود: 8] مِن ذكر تكذيبهم وعنادهم. يشير هذا التّفريع إلى أنّ مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأنّ من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأساً قد يَبْعَثُ على ترك دعائهم، فذلك كله أفيد بفاء التفريع.

والتوقع المستفاد من (لعل) مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ. ويجوز أن يقدّر استفهام حذفت أداته. والتقدير: ألَعَلّكَ تارك. ويكون الاستفهام مستعملاً في النفي للتحذير، وذلك نظير قوله تعالى: { لَعَلّكَ بَاخِعٌ نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين } [الشعراء: 3].

والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حداً يوجِبُ توقع الأمر المستفهَم عنه حتى أنّ المتكلّم يستفهم عن حصوله. وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهابُ همته لدفع الفتور عنه، فليس في هذا تجويز ترك النّبيّء صلى الله عليه وسلم تبليغ بعض ما يوحى إليه، وذلك البعض هو مّا فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى { وإذَا لَمْ تَأتِهِمْ بِآيَةٍ قَالوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتهَا } [الأعراف: 203]. والمعنى تحذيره من التأثّر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم، ويستتبع ذلك تأييسَ المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه.

{ وضائق }: اسم فاعل من ضاق. وإنما عدل عن أن يقال (ضيّق) هنا إلى { ضائق } لمراعاة النظير مع قوله: (تارك) لأنّ ذلك أحسن فصاحة. ولأنّ { ضائق } لاَ دَلالَة فيه على تمكّن وصف الضّيْق من صدره بخلاف ضيّق، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف، إيماء إلى أنّ أقْصَى ما يتوهّم توقعه في جانبه صلى الله عليه وسلم هو ضَيْق قليل يعرض له.

والضيق مستعمل مجازاً في الغم والأسف، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة.

و{ ضائق } عطف على { تارك } فهو وفاعله جملة خبر عن (لعلّك) فيتسلط عليه التفريع.

والباء في { بِه } للسببية، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو { أن يقولوا }. و{ أن يقولوا } بدل من الضمير. ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله تعالى: { وأسروا النّجْوَى الّذينَ ظَلَموا } [الأنبياء: 3]، فيكون تحذيراً من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا: { لولا أنزل عليه كنزٌ أو جاء معه ملكٌ }، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهم: { إن هذا إلاّ سِحْرٌ مبِين } [هود: 7]، ومن قولهم: ما يَحْبس العذاب عنا، بواسطة كون { ضائق } داخلاً في تفريع التحذير على قولَيْهم السّابقَيْن. وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكّناً في الذهن، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيهاً على الاهتمام بالمتعلّق لأنّه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعدُ لما في لفظ التفسير من الطول، فيحصل بذكره بُعد بين اسم الفاعل ومرفوعه، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه، فحصَل الاهتمام وقُوّيَ الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن.

ومعظم المفسرين جعلوا ضمير { به } عائداً إلى { بعض ما يوحى إليك }. على أن ما يوحى إليه سبب لضيق صدره، أي لا يضيق له صدرك، وجعلوا { أن يقولوا } مجروراً بلام التعليل مقدرة. وعليه فالمضارع في قوله: { أن يقولوا } بمعنى المضي لأنهم قالوا ذلك. واللام متعلقة بـ{ ضائق } وليس المعنى عليه بالمتين.

و{ لولا }: للتحضيض، والكنز: المال المكنوز أي المخبوء.

وإنزاله: إتيانه من مكان عَال أي من السماء.

وهذا القول صدر من المشركين قبل نزول هذه الآية فلذلك فالفعل المضارع مراد به تجدد هذا القول وتكرره منهم بقرينة العلم بأنه صدر منهم في الماضي، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سبباً في ضيق صدره لأن التحذير إنما يتعلق بالمستقبل.

ومرادهم بـ{ جاء معه ملك } أن يجيء ملك من الملائكة شاهداً برسالته، وهذا من جهلهم بحقائق الأمور وتوهمهم أنّ الله يعبأ بإعراضهم ويتنازل لإجابة مقترح عنادهم، ومن قصورهم عن فهم المعجزات الإلهية ومَدى التأييد الربّاني.

وجملة { إنّمَا أنْتَ نَذيرٌ } في موقع العلّة للتحذير من تركه بعض ما يوحى إليه وضيق صدره من مقالتهم. فكأنه قيل لا تترك إبلاغهم بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك من مقالهم لأنك نذيرٌ لاَ وَكيل على تحصيل إيمانهم، حتى يترتب على يأسك من إيمانهم تركُ دعوتهم.

والقصر المستفاد من { إنما } قصر إضافي، أي أنت نذير لا موكّل بإيقاع الإيمان في قلوبهم إذ ليس ذلك إليك بل هو لله، كما دلّ عليه قوله قبله { فَلَعَلّك تَاركٌ بعضَ مَا يوحَى إلَيْكَ وَضَائِقٌ بِه صَدْرُكَ } فهو قصر قلب. وفيه تعريض بالمشركين برد اعتقادهم أنّ الرسول يأتي بما يُسأل عنه من الخوارق فإذا لم يأتهم به جعلوا ذلك سنداً لتكذيبهم إيّاه رداً حاصلاً من مستتبعات الخطاب، كما تقدم عند قوله تعالى: { فَلَعَلّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ } إذ كثر في القرآن ذكر نحو هذه الجملة في مقام الردّ على المشركين والكافرين الذين سألوا الإتيان بمعجزات على وفق هواهم.

وجملة { وَاللّه عَلَى كُلّ شَيْء وَكِيل } تذييل لقوله: { فَلَعَلّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ } إلى هنا، وهي معطوفة على جملة { إنما أنت نذير } لما اقتضاه القصر من إبطال أن يكون وكيلاً على إلجائهم للإيمان. ومما شمله عموم { كل شيء } أن الله وكيل على قلوب المكذبين وهم المقصود، وإنما جاء الكلام بصيغة العموم ليكون تذييلاً وإتياناً للغرض بما هو كالدّليل، ولينتقل من ذلك العموم إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله مطلع على مكر أولئك، وأنه وكيل على جزائهم وأن الله عالم ببذل النبي جهده في التبليغ.