التفاسير

< >
عرض

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
٥٧
-هود

التحرير والتنوير

تفريع على جملة { إنّي أشهد الله } [هود: 54]. وما بينهما اعتراض أوجبه قصد المبادرة بإبطال باطلهم لأنّ مضمون هذه الجملة تفصيل لمضمون جملة { إنّي أشهد الله } [هود: 54] بناء على أنّ هذا من كلام هود - عليه السّلام -.

وعلى هذا الوجه يكون أصل { تولوا } تتولوا فحذفت إحدى التّاءين اختصاراً، فهو مضارع، وهو خطاب هود - عليه السّلام - لقومه، وهو ظاهر إجراء الضمائر على وتيرة واحدة.

ويجوز أن تكون فعلاً ماضياً، والواو لأهل مكّة فيكون كالاعتراض في إجراء القصة لقصد العبرة بمنزلة الاعتراض الواقع في قصّة نوح - عليه السّلام - بقوله: { أم يقولون افتراه قل إن افتريته } [هود: 35] الآية. خاطب الله نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمره بأن يقول لهم: { قد أبلغتكم }. والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة { فقد أبلغتكم } من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مقولَ قول مَأمور به محذوف يدلّ عليه السياق. والتقدير: فقل قد أبلغتكم. وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجّه المحتمل معنيين غير متخالفين، وهو من بديع أساليب الإعجاز، ولأجله جاء فعل { تولوا } بتاء واحدة بخلاف ما في قوله: { وَإنْ تتولوا يستبدل قوماً غيركم } [محمد: 38].

والتولّي: الإعراض. وقد تقدّم في قوله تعالى: { ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } ، في سورة [النساء: 80].

وجعل جوابُ شرط التولّي قوله: { فقد أبلغتكم } مع أنّ الإبلاغ سابق على التولّي المجعول شرطاً لأنّ المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ، وهو انتفاء تبعة تولّيهم عنه وبراءته من جرمهم لأنّه أدّى ما وجب عليه من الإبلاغ، فإنْ كان من كلام هود - عليه السّلام - فـ { ما أرسلت به } هو ما تقدّم، وإنْ كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فما أرسل به هو الموعظة بقصّة قوم هود - عليه السّلام -.

وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولّي عليهم ونزول العقاب بهم، ولذلك عطف { ويستخلف ربّي قوماً غيركم } أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم، وهذا كقوله تعالى: { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [محمد: 38].

وارتفاع { يستخلف } في قراءة الكافّة لأنّه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم. وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام المستأنف ليكون مقصوداً بذاته لا تبعاً للجواب، فبذلك يكون مقصوداً به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال.

وكذلك جملة { ولا تضرونه شيئاً } والمراد لا تضرون الله بتولّيكم شيئاً و{ شيئاً } مصدر مؤكد لفعل { تضرونه } المنفي.

وتنكيره للتّقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالباً. والمقصود من التّأكيد التّنصيص على العموم بنفي الضر لأنّه نكرة في حيّز النفي، أي فالله يلحق بكم الاستئصال، وهو أعظم الضر، ولا تضرونه أقلّ ضر؛ فإنّ المعروف في المقارعات والخصومات أنّ الغالب المضرّ بعدوّه لا يخلو من أن يَلحقه بعض الضرّ من جرّاء المقارعة والمحاربة.

وجملة { إنّ ربّي على كل شيء حفيظ } تعليل لجملة { ولا تضرّونه شيئاً }، فموقع { إنّ } فيها موقع فاء التفريع.

والحفيظ: أصله مبالغة الحافظ، وهو الذي يضع المحفوظ بحيث لا يناله أحد غير حافظه، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر.