التفاسير

< >
عرض

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٩
-يوسف

التحرير والتنوير

عطف على { { وجاءوا أباهم عشاء يبكون } [سورة يوسف: 16] عطف قصة على قصة. وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف عليه السّلام، والمعنى: وجاءت الجبّ.

و(السّيّارة) تقدم آنفاً.

والوارد: الذي يرد الماء ليستقي للقوم.

والإدلاء: إرسال الدلو في البئر لنزع الماء.

والدلو: ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطوياً على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو. والدلو مؤنثة.

وجملة { قال يا بشراي } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر إدلاء الدلو يهيّىء السامع للسؤال عمّا جرى حينئذٍ فيقع جوابه { قال يا بشراي }.

والبشرى: تقدمت في قوله تعالى: { { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } في سورة يونس (64).

ونداء البشرى مجاز، لأنّ البشرى لا تنادى، ولكنها شبّهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له: هذا آن حضورك. ومنه: يا حسرتَا، ويا عجباً، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية.

والمعنى: أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام.

وقرأ الجمهور { يا بشّرَايَ } بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بدون إضافة.

واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف ـــ عليه السّلام ـــ؛ خاطب الواردُ بقية السيّارة، ولم يكونوا يرون ذات يوسف ـــ عليه السّلام ـــ حين أصعده الوارد من الجب، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام، فتعين أيضاً أنهم لم يكونوا مشاهدين شبح يوسف ـــ عليه السّلام ـــ حين ظهر من الجب، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معيّنة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصَل شيءٌ فرح به غير مترقب، كما يقول الصائد لرفاقه: هذا غزال! وكما يقول الغائص: هذه صدفة أو لؤلؤة! ويقول الحافر للبئر: هذا الماء! قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه:

يقول راكبه الجنيّ مرتفقاًهذا لكُنّ ولحم الشاة محجور

وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون. قال النابغة:

أو درّة صدفاته غوّاصهابهج متى يُرها يهلّ ويسجد

والمعنى: وجدت في البئر غلاماً، فهو لقطة، فيكون عبداً لمن التقطه. وذلك سبب ابتهاجه بقوله: { يا بشراي هذا غلام }.

والغلام: مَن سنهُ بين العشر والعشرين. وكان سنّ يوسف ـــ عليه السّلام ـــ يومئذٍ سبع عشرة سنة.

وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيليين كما في التّوراة، أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم. وقيل: كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب.

ومعنى { أسَرُّوه } أخْفَوْه. والضمير للسيارة لا محالة، أي أخْفوا يوسف ـــ عليه السّلام ـــ، أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردّى في الجب، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت، وكان الشأن أن يعرّفوا من كان قريباً من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللّقطة، ولذلك كان قوله: { وأسرّوه } مشعراً بأن يوسف ـــ عليه السّلام ـــ أخبرهم بقصته، فأعرضوا عن ذلك طمعاً في أن يبيعوه. وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين.

و{ بضاعةً } منصوب على الحال المقدّرة من الضمير المنصوب في { أسرّوه }، أي جعلوه بضاعة. والبضاعة: عروض التجارة ومتاعها، أي عزموا على بيعه.

وجملة { والله عليم بما يعملون } معترضة، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حقّ في استرقاقه، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم، لأنهم قد علموا خبره، أو كان من حقهم أن يسْألوه لأنه كان مستطيعاً أن يخبرهم بخبره.

وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف ـــ عليه السّلام ـــ آية من لطف الله به.