التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٨
-إبراهيم

التحرير والتنوير

تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة. وقد أثار هذا التمثيل ما دلّ عليه الكلام السابق من شدة عذابهم، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالاً من الصلة والمعروف من إطعام الفقراء، ومن عتق رقاب، وقِرى ضيوف، وحمالة ديات، وفداء أسارى، واعتمار، ورفادة الحجيج، فهل يجدون ثواب ذلك؟ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجهَ الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه، فضُرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع حتمالات.

والمثل: الحالة العجيبة، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ. فالمعنى: حال أعمالهم، بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مَثَل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام، فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام.

فقوله: { أعمالهم } مبتدأ ثانٍ، و { كرماد } خبر عنه، والجملة خبر عن المبتدإ الأول.

ولما جعل الخبر عن { مثل الذين كفروا }، { أعمالهم } آل الكلام إلى أن مَثَل أعمال الذين كفروا كرماد.

شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدّس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقاً لا يُرجى معه اجتماعُه. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه، والهيئة المشبهة معقولة.

ووصف اليوم بالعاطف مجاز عقلي، أي عاصف ريحُه، كما يقال: يوم ماطر، أي سحابه.

والرماد: ما يبقى من احتراق الحطب والفحم. والعاصف تقدم في قوله: { { جاءتها ريح عاصف } في سورة يونس (22).

ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع، لأن الرماد أثرٌ لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعِها بينهم وهو قِرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم.

وقرأ نافع وأبو جعفر { اشتدت به الرياح }. وقرأه البقية { اشتدت به الريح } بالإفراد، وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس.

وجملة { لا يقدرون مما كسبوا على شيء } بيان لجملة التشبيه، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها.

وجملة { ذلك هو الضلال البعيد } تذييل جامع لخلاصة حالهم، وهي أنها ضلال بعيد.

والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيتُه، أي بعيد في مسافات الضلال، فهو كقولك: أقصى الضلال أو جِدَّ ضَلال، وقد تقدم في قوله تعالى: { { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } في سورة النساء (116).