التفاسير

< >
عرض

رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
٣٧
-إبراهيم

التحرير والتنوير

جملة { إني أسكنت من ذريتي } مستأنفة لابتداء دعاء آخر. وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع. وفي كون النداء تأكيداً لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ربط المثل بمثله.

وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافاً لسابقيه لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه. ولعل إسماعيل ــــ عليه السلام ــــ حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى { { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } } إلى قوله { { واجعلنا مسلمين لك } [سورة البقرة: 127]. وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا.

و{ مِن } في قوله: { من ذريتي } بمعنى بعض، يعني إسماعيل ــــ عليه السلام ــــ، وهو بعض ذريته، فكأن هذا الدعاء صدر من إبراهيم ــــ عليه السلام ــــ بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة، كما دل عليه قوله في دعائه هذا { { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } [سورة إبراهيم: 39]، فذكر إسحاق عليه السلام.

والواد: الأرض بين الجبال، وهو وادي مكة. و{ غير ذي زرع } صفة، أي بواد لا يصلح للنبت لأنه حجارة، فإن كلمة { ذُو } تدلّ على صَاحبِ ما أضيفت إليه وتمكنه منه، فإذا قيل: ذو مال، فالمال ثابت له، وإذا أريد ضد ذلك قيل غير ذي كذا، كقوله تعالى: { { قرآناً عربياً غير ذي عوج } [سورة الزمر: 28]، أي لا يعتريه شيء من العوج. ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أولا زرع به.

و{ عند بيتك } صفة ثانية لوادٍ أو حال.

والمحرم: الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم. وما أصحاب الفيل منهم ببعيد.

وعلق { ليقيموا } بــــ { أسكنت }، أي علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معموراً أبداً.

وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة. وتهيّأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، لأن همة الصالحين في إقامة الدين.

والأفئدة: جمع فؤاد، وهو القلب. والمراد به هنا النفس والعقل.

والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم. فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر { أفئدة } لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم { من الناس }، فــــ { من } بيانية لا تبعيضية، إذ لا طائل تحته. والمعنى: فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم.

وتهوي ــــ مضارع هوَى بفتح الواو ــــ: سقط. وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة، كقول امرىء القيس:

كجلمود صخْرٍ حَطّه السيلُ من عل

ولذلك عدّي باللام دون { على }.

والإسراع: جُعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم.

والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم.

والتنكير مطلقٌ يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف.

ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين.

ورجاء شكرهم داخل في الدعاء لأنه جُعل تكملة له تعرضاً للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بأن يكونوا من الشاكرين. والمقصود: توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب.