التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٤٨
-البقرة

التحرير والتنوير

عطف على جملة: { { الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } [البقرة: 146]، فهو من تمام الاعتراض، أو عطف على جملة: { { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [البقرة: 145] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجُمل، ذلك أنه بعد أن لُقِّن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ما يجيب به عن قولهم { مَا وَلاَّهُم عن قبلتهم }، وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأَيْأَسَهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية، طَيَّاً لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة، كما يقال في المخاطبات «دَعْ هذا» أو «عَدِّ عن هذا»، والمعنى أن لكل فريق اتجاهاً من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق. وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق. وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم، وفي معناه قوله تعالى: { { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } [البقرة: 177] الآية، ولذلك أعقبه بقوله: { فاستبقوا الخيرات }، فقوله: { أين ما تكونوا } في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات. فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخُطب بذكر مقدِّمة ومقْصَد وبياننٍ لَه وتَعْلِيل وتَذْيِيل.

و(كل) اسم دال على الإحاطة والشمول، وهو مبهم يتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه.

وحذف ما أضيف إليه (كل) هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف (أُمَّة) لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى: { { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله } [البقرة: 285] أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى: { { ولكل جعلنا موالي } [النساء: 33] في سورة النساء، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: { { كل له قانتون } [البقرة: 116].

والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فِعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر.

وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيهاً بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ { وجهة } في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن، وقريب منه قوله: { { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [المائدة: 48].

وضمير { هو } عائد للمضاف إليه (كُل) المحذوف.

والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى: { { ما ولاهم عن قبلتهم } [البقرة: 142] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها.

وقراءة الجمهور «موليها» بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر «هو مُوَلاَّها» بألف بعد اللام بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم، فإنكم على الخيرات، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها. ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها.

وقوله: { فاستبقوا الخيرات } تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد. فالمنافسة تكون في مصادفة الحق.

والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلاّ أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى: { { واستبقا الباب } [يوسف: 25] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا. فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات. والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هاذم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى: { { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } [آل عمران: 133]، { { والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم } [الواقعة: 10 ــــ 12] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى: { { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } [الحديد: 10] وقال موسى: { { وعجلت إليك رب لترضى } [طه: 84].

وقوله: { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً } جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعاً خيرهم وشرهم و(كان) تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء.

والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة. قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان:

أَتَاكَ بيَ اللَّهُ الذي نَوَّر الهُدَىونُورٌ وإِسْلاَم علَيك دَليل

أراد سخرني إليك، وفي الحديث: "اللهم اهْدِ دَوْساً وأْت بها" أي اهدها وقربها للإِسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى: { { إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السمٰوات أو في الأرض يأت بها الله } [لقمان: 16].

وتجيء أقوال في تفسير { أينما تكونوا } على حسب الأقوال في تفسير { ولكلِّ وجهة } بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يُذَكِّركم بالله فاسعوا في مرضاته بالخيرات يَعْلم الله ذلك من كل مكان، أو هو ترهيب أي في أيَّة جهة يأتِ الله بكم فيثيت ويعاقِب، أوْ هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت، إلى غير ذلك من الوجوه.

وقوله: { إن الله على كل شيء قدير } تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة.