التفاسير

< >
عرض

لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٥٦
-البقرة

التحرير والتنوير

استئناف بياني ناشىء عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله: { { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } [البقرة: 244] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنّها محكمة أو منسوخة.

وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأممُ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضححِ العقيدة، المستقيم الشريعةِ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال: أيُتْرَكون عليه أم يُكْرَهُون على الإسلام، فكانت الجملة استئنافاً بيانياً.

والإكراه الحمل على فعل مكروه، فالهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا كراهية، ولا يكون ذلك إلاّ بتخويف وقوع ما هو أشدّ كراهية من الفعل المدعو إليه.

والدين تقدم بيانه عند قوله: { { مالك يوم الدين } [الفاتحة: 3]، وهو هنا مراد به الشرع.

والتعريف في الدين للعهد، أي دين الإسلام.

ونفي الإكراه خير في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حُكم الإسلام، أي لا تكرهوا أحداً على أتباع الإسلام قسراً، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً. وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدِّين بسائر أنواعه، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال، والتمكين من النظر، وبالاختيار. وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين على الإسلام، وفِي الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها" . ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء (176) { { يبين الله لكم أن تضلوا } الآية، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة، ووضحُه عمل النبي وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجاً حين جاءت وفود العرب بعد الفتح، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملَّة إبراهيم، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته، وتبيّنَ هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون اتِّباعه من المكابرة، وحقّق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع إنّ الشيطان قد يئس من أن يُعبد في بلدكم هذا لَمَّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه، ولذلك قال (سورة التوبة 29) { { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلها { { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلط عليهم } [التوبة: 73] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة:

أحدها: آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى: { { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } [التوبة: 36]، وقوله: { { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } [البقرة: 194]، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين.

النوع الثاني: آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّداً بغاية آيةِ { { حتى يعطوا الجزية } [التوبة: 29] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه { لا إكراه في الدين }.

النوع الثالث: مَا غُيِّيَ بغاية كقوله تعالى: { { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } [البقرة: 193]، فيتعين أن يكون منسوخاً بهاته الآية وآيةِ { { حتى يعطوا الجزية } [التوبة: 29] كما نُسخ حديثُ "أمرتُ أن أقاتل الناس" ، هذا ما يظهر لنا في معنى الآية، والله أعلم.

ولأهل العلم قبلنا فيها قولان: الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى: هي منسوخة بقوله { { يأيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين } [التوبة: 73]، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلاّ به. ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص. والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العربَ على الإسلام، يعارضه أنّه عليه السلام أخذ الجزية من جميع الكفّار، فوجه الجمع هو التنصيص. القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان، وإلى هذا مال الشافعي فقال: إنّ الجزية لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب والمجوسِ. قال ابن العربي في الأحكام «وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنسٍ يَحمل الآية عليه»، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مِقلاتاً ــــــ أي لا يعيش لها ولد ــــــ تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا: لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: { لا إكراه في الدين }.

وقال السدي: نزلت في قصة رجل من الأنصار يقال له أبو حُصَين من بني سلِمة بن عَوف وله ابنان جاء تجّار من نصارى الشام إلى المدينة فدعَوْهما إلى النصرانية، فتنصّرا وخرجا معهم، فجاء أبوهما فشكا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلب أن يبعث من يردّهما مكرهين فنزلت { لا إكراه في الدين }، ولم يؤمر يومئذ بالقتال ثم نسخ ذلك بآيات القتال. وقيل: إن المراد بنفي الإكراه نفي تأثيره في إسلام من أسلم كرهاً فراراً من السيف، على معنى قوله تعالى: { { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا } [النساء: 94]. وهذا القول تأويل في معنى الإكراه وحمل للنفي على الإخبار دون الأمر.

وقيل: إنّ المراد بالدين التوحيد ودين له كتاب سماوي وإنّ نفي الإكراه نهي، والمعنى لا تكرهوا السبايا من أهل الكتاب لأنّهنّ أهل دين وأكرهُوا المجوس منهم والمشركات.

وقوله: { قد تبين الرشد من الغيّ } واقع موقع العلة لقوله: { لا إكراه في الدين } ولذلك فصلت الجملة.

والرشد ــــــ بضم فسكون، وبفتح ففتح ــــــ الهُدى وسداد الرأي، ويقابله الغيّ والسفه، والغيّ الضلال، وأصله مصدرُ غَوَى المتعدي فأصله غَوْي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا. وضُمّن تبيّن معنى تميز فلذلك عدي بمَن، وإنّما تبيّن ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة.

وقوله: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } تفريع على قوله: { قد تبيّن الرشد من الغي } إذ لم يبق بعد التبيين إلاّ الكفرُ بالطاغوت، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين؛ إذ قد تفرّع عن تميّز الرشد من الغي ظهور أنّ متّبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختياراً.

والطاغوت الأوثان والأصنام، والمسلمون يسمّون الصَّنم الطاغية، وفي الحديث: "كانوا يهلون لمناة الطاغية" ، ويجمعون الطاغوت على طواغيت، ولا أحسبه ألاّ من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم ومكروه. ووزن طاغوت على التحقيق طَغَيُوت ــــــ فَعَلُوت ــــــ من أوزان المصادر مثل مَلَكوت ورَهَبوت وَرَحَمُوت فوقع فيه قلب مكاني ــــــ بين عينه ولامه ــــــ فصيرُ إلى فَلَعوت طيَغوت ليتأتى قلب اللام ألفاً فصار طَاغوت، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسماً لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل مَلَكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر ــــــ لا مثل رَحَموت ورهبوت في أنّهما مصدران ــــــ فتاؤه زائدة، وجعل علماً على الكفر وعلى الأصنام، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصادر.

وعطف { ويؤمن بالله } على الشرط لأنّ نبذ عبادة الأصنام لا مزيّة فيه إن لم يكن عَوّضها بعبادة الله تعالى.

ومعنى استمسك تمسك، فالسينُ والتاء للتأكيد كقوله: { { فاستمسكْ بالذي أُوحيَ إليك } [الزخرف: 43] وقوله: { { فاستجاب لهم ربهم } [آل عمران: 195] وقول النابغة: «فاستنكحوا أمّ جابر» إذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان، بل الإيمان التمسك نفسه. والعروة ــــــ بضم العين ــــــ ما يُجعل كالحلْقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه، فللدّلوْ عروة وللكُوز عُروة، وقد تكون العروة في حبل بأن يشدّ طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه، فلذلك قال في «الكشاف»: العروة الوثقى من الحبل الوثيق.

و{ الوثقى } المحكمة الشدّ. { ولا انفصام لها } أي لا انقطاع، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع مع إبانة وتجزئة.

والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي، شبهت هيأة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيأة من أمسك بعروة وثقى من حَبل وهو راكب على صَعب أو في سفينة في هَول البحر، وهي هيأة معقولة شبهت بهيأة محسوسة، ولذلك قال في «الكشاف» «وهذا تمثيل للمعلوم بالنظَر، بالمشاهَد» وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال «مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه»، فالمعنى أنّ المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا وهو ناج من مَهاوي السقوط في الآخرة كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم.

وقد أشارت الآية إلى أنّ هذه فائدة المؤمن تنفعه في دنياه بأن يكون على الحق والبصيرة وذلك ممّا تطلبه النفوس، وأشارت إلى فائدة ذلك في الآخرة بقوله: { والله سميع عليم } الذي هو تعريض بالوعد والثواب.