التفاسير

< >
عرض

للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٨٤
-البقرة

التحرير والتنوير

تعليل واستدلال على مضمون جملة { والله بما تعملون عليم } وعلى ما تقدم آنفاً من نحو: { { الله بكل شيء عليم } [آل عمران: 176] { { واللَّه بما تعملون عليم } [البقرة: 283] { واللَّه بما تعملون بصير } [الممتحنة: 3] { { واللَّه بما تعملون خبير } [البقرة: 234] فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه، فجملة { وإن تبدوا ما في أنفسكم } إلى آخرها هي محطُّ التصريح، وهي المقصود بالكلام، وهي معطوفة على جملة { { ولا تكتموا الشهادة } [البقرة: 283] إلى { { والله بما تعملون عليم } [البقرة: 283] وجملةُ { لله ما في السموات وما في الأرض } هي موقع الاستدلال، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين، أو علة لجملة { والله بما تعملون عليم } باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى: إنّكم عبيدُه فلا يفوته عملَكُم والجزاء عليه. وعلى هذا الوجه تكون جملة «وإن تبدوا ما في أنفسكم» معطوفة على جملة { لله ما في السموات وما في الأرض } عطف جملة على جملة، والمعنى: إنكم عبيدُه، وهو محاسبكم، ونظيرُها في المعنى قوله تعالى: { { وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به إنّه عليم بذات الصدور ألا يَعْلَمُ من خلق } [الملك: 13، 14] ولا يخالف بينهما إلاّ أسلوب نظم الكلام.

ومعنى الاستدلال هنا: إنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض، وخالق الخلق، فإذا كان في السموات والأرض لِلَّه، مخلوقاً له، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنَّه مكوِّن ضمائرِهم وخواطرهم، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية؛ لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه. ومالكيةُ الله تعالى أتَمّ أنواع الملك على الحَقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوبُ الوجود من صفات الكمال. فقوله: { لله ما في السموات وما في الأرض } تمهيد لقوله: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية.

وعُطف قوله: { وإن تبدوا ما في أنفسكم } بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمَّنه مقصود بالذات، وأنّ ما قبله كالتمهيد له. ويجوز أن يكون قوله: { وإن تبدوا } عطفاً على قوله: { { والله بما تعملون عليم } [البقرة: 283] ويكون قوله: { لله ما في السموات وما في الأرض } اعتراضاً بينهما.

وإبداء ما في النفس: إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف { أو تخفوه } للترقّي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات. وما في النفي يعمّ الخير والشر.

والمحاسبة مشتقّة من الحُسبان وهو العدّ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة: يعُدُّه عليكم، إلاّ أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى: { إن حسابهم إلا على ربي } [الشعراء: 113] وشاع هذا في اصطلاح الشرع، ويوضّحه هنا قوله: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }.

وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة: ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء، فلا يقصّروا في اتّباع الخيرات النفيسة والعملية، إلاّ أنّه أثبت غفراناً وتعذيباً بوجه الإجمال على كلَ ممَّا نُبديه وما نخفيه. وللعلماء في معنى هذه الآية، والجمع بينها وبين قوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ هَمّ بسيئة فلم يعملها كتُبت له حسنة" . وقوله: "إن الله تجاوز لأمَّتِي عمّا حدثتْها به أنفُسها" وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض، في شرحيهما «لصحيح مسلم»: وهو ــــــ مع زيادة بيان ــــــ أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطرِ وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عَزم، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أوْ لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتَّب عليها أفعال: مثل الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأنَّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختياراً لغير مانع منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث "من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنةً" وإن رجع لمانعٍ قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان. أي إنّ قوله تعالى: { يحاسبكم به الله } محمول على معنى يجازيكم وأنّه مُجمل تُبَيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة، وإنّ من سمَّى ذلك نسخاً من السلف فإنّما جرى على تسميةٍ سبقتْ ضَبطَ المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }.

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس «أنّ هذه الآية نُسِخت بالتي بعدها» أي بقوله: { { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [البقرة: 286] كما سيأتي هنالك.

وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المُبْدَى والمُحْفَى، كما هو بيّن.

وقرأ الجمهور: فيَغفرْ ويعذّب بالجزم، عطفاً على يحاسِبْكم، وقرأه ابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: بالرفع على الاستئناف بتقدير فهو يغفر، وهم وجهان فصيحان، ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ.

وقوله: { والله على كل شيء قدير } تذييل لما دلّ على عموم العلم، بما يدلّ على عموم القدرة.