التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً
١٠٢
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً
١٠٣
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً
١٠٤
-طه

التحرير والتنوير

{ يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ } بدل من { { يومَ القيامة } [طه: 101] في قوله { { وسَاءَ لهم يوم القيامة حملاً } [طه: 101]، وهو اعتراض بين جملة { وقد ءَاتيناك من لدُنَّا ذِكراً } [طه: 99] وما تبعها وبين جملة { { وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً } [طه: 113]، تخلّص لذكر البعث والتذكير به والنذارةِ بما يحصل للمجرمين يومئذ.

والصُور: قَرن عظيم يُجعل في داخله سِداد لبعض فضائه فإذا نفخ فيه النافخ بقوة خرج منه صوت قوي، وقد اتخذ للإعلام بالاجتماع للحرب. وتقدم عند قوله تعالى: { قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور } في سورة الأنعام (73).

وقرأ الجمهور { يُنفخ } بياء الغيبة مبنياً للمجهول، أي ينفخ نافخ، وهو الملك الموكل بذلك. وقرأه أبو عمرو وحده ننفخ بنون العظمة وضم الفاء وإسناد النفخ إلى الله مجاز عقلي باعتبار أنّه الآمر به، مثل: بنى الأمير القلعة.

والمجرمون: المشركون والكفرة.

والزرق: جمع أزرق، وهو الذي لونه الزُّرقة. والزرقة: لون كلون السماء إثر الغروب، وهو في جلد الإنسان قبيح المنظر لأنه يشبه لون ما أصابه حرقُ نارٍ. وظاهر الكلام أن الزرقة لون أجسادهم فيكون بمنزلة قوله يوم { تبيض وجوه وتسود وجوه } [آل عمران: 106]، وقيل: المراد لون عيونهم، فقيل: لأنّ زرقة العين مكروهة عند العرب. والأظهر على هذا المعنى أن يراد شدّة زرقة العين لأنّه لون غير معتاد، فيكون كقول بشّار:

وللبخيل على أمواله عِللزُرْق العُيون عليها أوْجه سُودُ

وقيل: المراد بالزُّرق العُمْي، لأن العمى يلوّن العين بزرقة. وهو محتمل في بيت بشّار أيضاً.

والتخافت: الكلام الخفي من خوف ونحوه. وتخافتهم لأجل ما يملأ صدورهم من هول ذلك اليوم كقوله تعالى: { { وخشعت الأصوات للرحمٰن فلا تسمع إلا همساً } [طه: 108].

وجملة { إن لَّبِثْتُم إلاَّ عَشْراً } مبيّنة لجملة { يَتَخٰفَتُونَ }، وهم قد علموا أنهم كانوا أمواتاً ورفاتاً فأحياهم الله فاستيقنوا ضلالهم إذ كانوا ينكرون الحشر.

ولعلهم أرادوا الاعتذار لخطئهم في إنكار الإحياء بعد انقراض أجزاء البدن مبالغة في المكابرة، فزعموا أنهم ما لبثوا في القبور إلاّ عشرَ ليال فلم يصيروا رفاتاً، وذلك لما بقي في نفوسهم من استحالة الإحياء بعد تفرق الأوصال، فزعموا أن إحياءهم ما كان إلا بردّ الأرواح إلى الأجساد. فالمراد باللبث: المكث في القبور، كقوله تعالى: { { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } في سورة المؤمنين (112، 113)، وقوله { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون } في سورة الروم (55).

و (إذ) ظرف، أي يتخافتون في وقت يقول فيه أمثلهم طريقةً. والأمثل: الأرجح الأفضل. والمَثالة: الفضل، أي صاحب الطريقة المثلى لأن النسبة في الحقيقة للتمييز.

والطريقة: الحالة والسنّة والرأي، والمراد هنا الرأي، وتقدم في قوله { { ويذهبا بطريقتكم المثلى } [طه: 63] في هذه السورة، ولم يأت المفسرون في معنى وصف القائل { إن لبثتم إلا يوماً } بأنه أمثل طريقة بوجه تطمئن له النفس.

والذي أراه: أنه يحتمل الحقيقة والمجاز؛ فإن سلكنا به مسلك الحمل على الحقيقة كان المعنى أنه أقربهم إلى اختلاق الاعتذار عن خطئهم في إنكارهم البعث بأنهم ظنوا البعث واقعاً بعد طول المكث في الأرض طولاً تتلاشى فيه أجزاء الأجسام، فلما وجدوا أجسادهم كاملة مثل ما كانوا في الدنيا قال بعضهم { إن لبثتم إلا عشراً }، فكان ذلك القول عذراً لأن عشر الليالي تتغيّر في مثلها الأجسام. فكان الذي قال { إن لبثتم إلا يوماً } أقرب إلى رواج الاعتذار. فالمراد: أنه الأمثل من بينهم في المعاذير، وليس المراد أنه مصيب.

وإن سلكنا به مسلك المجاز فهو تهكم بالقائل في سوء تقديره من لبثهم في القبور، فلما كان كلا التقديرين متوغّلاً في الغلظ مؤذناً بجهل المقدّرين واستِبهام الأمر عليهم دالاً على الجهل بعظيم قدرة الله تعالى الذي قَضّى الأزمانَ الطويلة والأممَ العظيمة وأعادهم بعد القرون الغابرة، فكان الذي قدر زمن المكث في القبور بأقلِّ قَدْر أوغل في الغلط فعُبر عنه بــــ{ أمْثَلُهُم طَرِيقَةً } تهكماً به وبهم معاً إذ استوى الجميع في الخطأ.

وجملة { نحنُ أعلَمُ بما يَقُولُونَ } معترضة بين فعل { يتخافتون } وظرفِية { إذْ يَقُولُ أمْثَلُهُم }، أي إنهم يقولون ذلك سراً ونحن أعلم به وإننا نخبر عن قولهم يومئذ خبر العليم الصادق.